وفارقهم، انقطعت الوصلة بينه وبينهم، واتصل بمن هاجر إليهم، وهذا بعينه هو السبب في اتحاد المهاجرين، والأنصار حتى جمعهم الله تعالى في كتابه، وقال في الأنصار:{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}[الحشر: ٩]؛ وكيف لا يحبون من هاجر إليهم وقد رغب عن قومه إليهم!
والهجرة من شأن الأنبياء عليهم السلام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرأً مِنَ الأَنْصارِ، وَلَوْ أَنَّ النَاسَ أَخَذُوْا وادِياً وَشِعْباً، وَسَلَكَتِ الأَنْصارُ وادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وادِيَ الأَنْصارِ وَشِعْبَهُمْ". رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (١).
ولقد هاجر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمر أصحابه بالهجرة، وهاجر قبله أبوه إبراهيم عليه السلام وقال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}[العنكبوت: ٢٦]، وقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ} [مريم: ٤٨، ٤٩] الآية.
وهاجر معه ابن أخيه لوط عليهما السلام، وهاجر موسى عليه السلام من مصر إلى مَدْين، وهذه سنة الأنبياء والصالحين، ولو شاؤوا لدعَوا على أهل الشرك فهلَكوا، أو سلِموا هم من أذاهم، ولم يهاجروا من أوطانهم، ولكنهم فعلوا ذلك تشريعاً لأتباعهم؛ إذ لا يمكن كلاًّ من الأتباع ذلك، ولو أقاموا بين المشركين وآذوهم، لم يطيقوا، فربما
(١) رواه البخاري (٦٨١٧) عن أبي هريرة، ومسلم (١٠٥٩) عن أنس.