للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَما أَحارَتْ جَواباً ... وَطالَ مِنَّا العَناءُ

قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مصغية إلى صوته، فتعجب مَنْ حَضَرَ من رجوعها ووقوفها، وأخذ القوس (١).

قلت: وأنا لقد اتفق لي مرة أني كنت ومعي جماعة من إخواني الفقراء إلى الله تعالى في بعض بساتين الربوة بدمشق، ومعنا رجل حسن الصوت، مشهور بمعرفة الألحان والأنغام، أستاذ في بابه، وكان يتغنى وينشد من كلام القوم، فإذا أخذ في ألحانه أصغت إليه جميع الأطيار في ذلك البستان كأنها تستمع إليه، فإذا فرغ من نوبته أخذت سواجعها في نوبتها تغرد ما شاء الله تعالى، فلما أفقت عليها، وتعرفت أمرها بإصغائي إليها نبهت أصحابي، فاقبلوا على تبين ذلك، فاستبان لهم لا يشكون فيه، وقلنا للمنشد: أنشد، فلما أنشد سكت السواجع، وأصغت إليه سوامع، فما زال هذا ديدنها وديدننا حتى فرغ ذلك النهار، وكان هذا من عجيب الاتفاق.

فلا بأس أن يصغي الإنسان إلى السماع الطيب الذي لا يحرم ولا يكره، ولا يكون أعجز من الإبل والظباء، والفهود والأطيار، والبهائم؛ فإن العرب قد أحدثت لها أسماء أصوات تُفهمها ما تريده منها من سير أو شرب، أو وقوف أو تحول من طريق إلى طريق، أو انزجار عن شيء إلى غير ذلك.


(١) انظر: "الأغاني" للأصبهاني (١٨/ ٣٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>