فمن فهم هذا المعنى فمهما عرضت له شهوة من الدنيا اعتبر ما في الجنة من نوعها مع النزاهة والدوام، ثم تناول منها ما يزيل عنه ضرورة البشرية، وأمسك عن الاسترسال خشية من الفتنة والهلاك؛ إذ من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر - كما في الحديث المتقدم - واستحضر الخوف من أن يحال بينه وبين الشهوة في دار الآخرة بسبب الاسترسال في تناولها في الدنيا كما قال تعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}[سبأ: ٥٤].
وقد روى النسائي، والحاكم وصححه على شرطهما، عن عقبة ابن عامر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول:"إِنْ كُنتمْ تُحِبُّوْنَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيْرَهَا فَلا تَلْبَسُوهُمَا فِي الدُنْيَا"(١).
وصحح على شرطهما أيضاً عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: استأذن سعد - رضي الله تعالى عنه - على ابن عامر، وتحته مرافق من حرير، فأمر بها فرفعت، فدخل عليه وعليه مطرف من خز، فقال له: استأذنت وتحتي مرافق من حرير، فأمرت بها فرفعت.
فقال: نِعْمَ الرجل أنت يا ابن عامر، إن لم تكن ممن قال الله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}[الأحقاف: ٢٠]، والله لأن اضطجع
(١) رواه النسائي (١٧٣٤٨)، والحاكم في "المستدرك" (٧٤٠٣)، وكذا ابن حبان في "صحيحه" (٥٤٨٦).