للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الثاني: وهو وقوع الإخلال بالجنون في أمور الآخرة؛ فإن المجنون لا يتصور اللذة فيطلبها، ولا الشدة فيتجنبها، فلو تصور ألم العقاب لكان ربما لا يعمل معصية ولا يرتكب قبيحة، ولو تصور لذة الثواب لكان ربما لا يدع فريضة ولا يفوت فضيلة، ولكنه لا يتصور شيئاً من ذلك، ولهذا رفع عنه التكليف؛ إذ لا يهتدي إلى صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا يخرج من عهدة طاعة أصلاً، وقد تراه يصلي ويتكلم، أو يحدث في صلاته، أو يقطعها متى خطر له، أو يزيد فيها، وقد ينوي الصبح في وقت العشاء، وعكسه، وربما صفع أباه، أو بطش بسلطانه، وبمن لم يوده، وربما وقع على غير أهله، وكشف عن سوءته في ملأ الناس، ومزَّق أثوابه، وأتلف ماله أو مال غيره، وربما كسر الآنية، وأهلك الأمتعة، إلى غير ذلك من القبائح.

فتشبه العاقل به في ذلك أو في شيء منه غير سائغ ولا جائز؛ لأن المجنون يسامح في ذلك إلا لما لم يكن عقل يعقل به قبح هذه الأمور ومقاصدها، ويتعرف به ما يحمد عاقبته من أفعاله، وما تذم عاقبته في الدار الآخرة.

وأما العاقل فإنه يعقل ذلك كله، فلا عذر له في فعل شيء من ذلك، فمن تابع هواه في شيء تذم عاقبته، وأعرض عن مقتضى العقل فهو ملحق بالمجانين من حيث إنه لم ينتفع بالعقل، ولكنه غير معذور كما يعذر المجانين لأن له عقلاً.

ومن ثم أطلق الحكماء اسم الجنون على كل وصف حمل صاحبه

<<  <  ج: ص:  >  >>