ثم قال: ولما كان فقدان البصيرة أشنع من فقدان البصر لأنه بارتفاع البصيرة انتفاع النفس بالبصر قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: ٤٦].
فذمهم بفقدان البصيرة تنبيهاً على أن فقدانها اختياري؛ إذ هو بتركهم استفادة العلم، وأكثر من أن البصر ضروري، انتهى.
وحاصل ما قررناه في هذا الفصل: أن اتصاف الإنسان بالأوصاف الحيوانية، وتخلقه بالطباع البهيمية مما يخالف الحكمة الإلهية، ويخل منه بالإنسانية، فلذلك جاء الشرع الشريف بالنهي عن التشبه بالبهائم والسباع في كثير من الخصال والطباع، وجاء القرآن العظيم بتمثيل الكفار والفساق بالأنعام، فقال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[البقرة: ١٧١].
فمثل واعظ الكفار وداعيهم بالراعي إذا نعق بالغنم، وهي لا تسمع إلا دعاءً ونداءً لا تفهم معناه، بل هم أسوء حالاً من الغنم لأنها قد تنزجر بنعق الراعي، وتنضم من نفشاتها، بخلاف الكفار ونحوهم؛ فإنَّ وعظ الواعظ لا يؤثر فيهم، ولا يزجرهم عن كفرهم وطغيانهم، وإذا ذكروا لا يذكرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}[المرسلات: ٤٨].
فأشار سبحانه وتعالى إلى أنهم أسوء حالاً من الغنم بقوله في وصفهم:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}[البقرة: ١٧١]؛ أي: صم عن سماع الحق، بكم عن النطق به، عَمِي عن رؤية مسالكه وطرائقه، فهم لا يعقلون