أما بعد: فخير ما شغل به العاقل وقته ووشى به صحيفته هو تفهم كتاب الله تعالى والعمل بما يدعو إليه وتبيين أوامره ونواهيه، ومعرفة وعظه وقصصه ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، ولا سبيل لذلك إلّا بخدمة أحاديث رسول الله ﷺ والقيام على جمعها وتدوينها وتطهيرها من وهن الضعفاء وإفك الوضاعين، لذلك عني السلف الصالح بخدمة سنة رسول الله ﷺ خدمة لم تدع للخلف مجالًا للمزيد ولا موضعًا للاستدراك، وكانوا يرون أن العلم كل العلم في تفهم كتاب الله تعالى والاحتفاظ بسنة رسول الله ﷺ، كما قد قال في ذلك قائلهم:
كل العلوم سوى القرآن مضيعة … إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما قال فيه الناس حدثنا … وما سواه فوسواس الشياطين
وإن خير ما دوّن في ذلك الصحاح الستة المشهورة في الحديث قديمًا وحديثًا، ولما كان الحصول على غير البخاري ومسلم ربما يعز على الخاصة ولا يمكن وصول العامة إليه رأى - ورأيه الموفق - العالم العامل والإنسان الكامل والمرشد الواصل فرع الشجرة النبوية السيد منصور ناصف الحسيني الشافعي أن يتفرغ في الكثير من وقته ويبذل النفيس من جهده فيجمع بين الأصول الخمس من الصحاح فتم له ما قصد وأدرك من بغيته ما أمل، وألف في ذلك كتابه (التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول) وقد وقفت منه في روضة غناء قطوفها دانية، لا تسمع فيها لاغية، جمع فيه خمسًا من الصحاح تاركًا المكرر من الأحاديث فيها، مقتصرًا من الإسناد على اسم المخرج والراوي، ضامًا لمحل ما اتحد موضوعه من الأحاديث بعضه إلى بعض مرتبًا ذلك على ترتيب الأبواب الفقهية، جامعًا في أحاديث الأخلاق والآداب الشكل إلى شكله، والنظير إلى نظيره، فجاء كتابًا تقرّ به العيون، وتنشرح له الصدور، يحصل منه طالب العلم على مطلبه من أقرب الطرق وأيسر السبل.
فإن جمع الأحاديث مرتبة على حروف المعجم باعتبار أول كلمة في الحديث في صنع الكثير من المؤلفين لا يسهل إلا على الحفاظ المتقنين، وقليل ما هم الآن.
وبالجملة فهذا (التاج) فيه غاية كل طالب، وأمنية كل راغب، فمن حاز التاج فقد حاز الخير الكثير والعلم الغزير، واستغنى عن الخمسة الأصول، وماذا عسى في مدح هذا التاج أن أقول، وقد حدت بالمؤلف الشفقة الإسلامية والغيرة الدينية إلى أن يضيف إلى هذه الحسنة حسنة أخرى رصعت هذا (التاج) وزادته رونقًا وبهجة، إذ قد شرح هذه الأحاديث شرحًا يشرح الصدور ويسر القلوب، وبين غريبها بيانًا جزلًا بين الإيجاز والإطناب، ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل.
فجزى الله مولانا المؤلف عن السنة النبوية أحسن الجزاء، ونفع الأنام بهذا التأليف الجليل ومد في عمر مؤلفه حتى يتحف الناس بدرر أفكاره وجميل آثاره وعظيم أسراره، إنه ولي التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
حرر بالقاهرة في الخامس والعشرين من رجب سنة ١٣٥١ هجرية.