للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمُجْتَبَى لِلنَّسَائِيِّ (١) . وَهذِهِ هِيَ الأُصُولُ الْخَمْسَةُ الَّتِي اشْتَهَرَتْ فِي الأُمَّةِ وَارْتَضَتْهَا

لِمَا لَهَا مِنَ الْمَكَانَةِ الْعُلْيَا فِي الْحَدِيثِ (٢) وَلِأنَّهَا جَمَعَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ مَا عَزَّ وَغَلَا ثَمَنُهُ


(١) هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النَّسَائِيّ كان ورعًا تقيًا حافظًا، وكتابه أكثر الكتب تكرارًا، حتى إنني أذكر له في الصوم أنه كرر حديث النية ست عشرة مرة. ولد سنة ٢١٥ خمس عشرة ومائتين. ومات بمكة سنة ٣٠٣ هـ ثلاث وثلاثمائة. وبلده الأصلي نسا، ومسلم من نيسابور وكلاهما بإقليم خراسان، والبخاري من بخارى، والترمذي من ترمذ وكلاهما بإقليم ما وراء النهر. وأبو داود من سجستان بإقليم السند. وهذه أقاليم أعجمية فارسية شرق الخليج الفارسي، إلا أن السند بإزاء المدينة نصًا، وخراسان وما وراء النهر مائلان إلى الشمال، كما في خريطة الممالك الإسلامية للمرحوم أمين بك واصف، فليس فيهم عربي ولا من جزيرة العرب إلا الإمام مسلمًا، فإنه قشيري، من أحد قبائل العرب. ولكن الله ألان لهم علم الحديث كما ألان الحديد لداود ، وهؤلاء الأئمة كانوا يتعبّدون على مذهب الشافعي ، إلا البخاري فلم يعلم مذهبه. وقد اشتركوا في أخذ العلم عن شيوخ معلومة، فإنهم كانوا في عصر واحد وهو القرن الثالث الذي ظهرت فيه شمس الحديث وبسطت أنوارها على الأرض بمن فيها. ولكن مسلمًا والترمذي كانا كثيري الاجتماع بالبخاري .
(٢) التي فاقت كل كتاب ظهر إلى الآن في علم الحديث. فإن البخاري ومسلمًا التزما ألا يرويا حديثًا إلا إذا كان متصل السند بنقل الثقة عن الثقة، من أوله إلى منتهاه سالمًا من الشذوذ والعلة. وهذا حد الصحيح عند العلماء بلا خلاف، إلا أن مسلمًا اكتفى في الراوي والمروي عنه أن يكونا في عصر واحد وإن لم يجتمعا، بخلاف البخاري فإنه اشترط اجتماعهما زيادة احتياط. قال ابن الصلاح : كل ما حكم مسلم بصحته في كتابه فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه؛ لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول إلا من لا يعتد به. وقال إمام الحرمين: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن كل ما في البخاري ومسلم صحيح لما ألزمته الطلاق، لإجماع المسلمين على صحتها، وما قيل في بعض أحاديثهما إنه لم يصل إلى درجة الصحيح فهو من اختلاف نظر النقاد في الرواة. وحسبنا اتفاق العلماء على أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وكذا المجتبى للنسائي كله صحيح، فإنه لما ألف السنن الكبرى وقدمها لأمير الرملة قال له: يا أبا عبد الرحمن أكلّ ما فيها صحيح؟ فقال: فيها الصحيح وغيره. فقال الأمير: جرّد لنا الصحيح، فجمع الصحيح في كتاب وأسماه المجتبى فهو هذا الذي بأيدينا. وأما أبو داود فقد قال: ما وضعت في كتابي حديثًا أجمع الناس على تركه، وما فيه من وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قال الحافظ ابن حجر: لفظ صالح في كلامه أعم من أن يكون للاحتجاج أو للاعتبار، فما أرتقى إلى الحسن ثم إلى الصحة فهو بالمعنى الأول وما عداهما فهو بالمعنى الثاني. وما قصر عن ذلك فهو ما فيه وهن شديد ا هـ. فعلى هذا كل حديث سكت عنه أبو داود فهو صالح، وسأتبع ذلك في بيان درجة ما رواه بقولي بسند صالح. قال الخطابي : لم يصنف في علم الدين مثل السنن لأبي داود، وقد رزق القبول من كافة الناس على اختلاف مذاهبهم، وكفاه أن الأمة لم تجمع على ترك حديث واحد فيه. وأما الترمذي فقد قال في آخر كتابه: جميع ما في هذا الكتاب فهو معمول به وقد أخذ به بعض أهل العلم إلا حديثين أحدهما: جمع النبي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. وثانيهما: إذا شرب العبد الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه اهـ. ولكنه سها في الأول فقد أخذ به بعض المحدثين والفقهاء كما سيأتي في عذر الصلاة. وأما الثاني فمصيب فيه لأنَّه لم يقل به أحد من الأمة. والترمذي لم يترك بعده لأحد قولًا، فقد أبان عن درجة كل حديث بعد إخراجه بل وزاد على هذا أنه ذكر رواته عن النبي كما ذكر من أخذ به من الصحب والتابعين والفقهاء، ففيه ضروب من العلم وأنواع من نفائسه وتحقيق من صناعة الحديث التي لم توجد في غيره من كتب القوم. وهو أقل الكتب تكرارًا كمسلم وأبي داود وفيه قسط عظيم من التفسير والأخلاق والسمعيات كالشيخين، بخلاف النَّسَائِيّ فليس فيه شيء من ذلك. قال الترمذي : عرضت هذا الكتاب على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به واستحسنوه، ومن كان كتابي في بيته فكأنّما في بيته نبي يتكلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>