للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القرآن هو منهج المسلم في تفسير الأحداث]

الحمد لله الذي جعل العزة والكرامة والأمن والطمأنينة لمن أطاعه وحَكَّم شرعه، وجعل الذلة والصغار والخوف لمن خالف أمره، وخالف تحكيم كتابه وسنة نبيه، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته وعظمته، الأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يعلم جنوده إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم وللأولين وللآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

واعلموا أن التقوى مع حسن الخلق أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، وما ذاك إلا أن التقوى تتضمن مراقبة الله في السر والخفاء قبل العلانية، وفي الباطن قبل الظاهر.

معاشر المؤمنين: يظن كثيرٌ من المسلمين في خضم هذه الأحداث المتلاطمة التي أصبح يتكلم فيها كلٌ في منهجه، وكلٌ بمنظاره، وبطريقه، فالذين يؤمنون بأن الغلبة والقوة لمن ملك القوة المادية والسلطة العسكرية، والآخرون الذين يظنون أن من ألف الشعوب وجيَّش العواطف، أنه سيكسب هذه الجولة، وقليلٌ من أولئك الذين يظنون أو يعلمون أو يتيقنون أن الأمر لمن كان قريباً من الله جل وعلا بصريح قوله سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥١ - ٥٢]، ولقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٤٠]، ولقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧].

في خضم هذه الأحداث، وفي هذه الأمواج المتتالية من التحليلات والتوقعات، والأنباء والأخبار وغير ذلك، ليس لدينا إلا منظار واحد، سواء حلل الغربيون بطريقةٍ معينة، أو حلل الشرقيون بطريقة معينة، أو ذهب أرباب الفكر والسياسة إلى منهجٍ معين، اعلموا أن منهج المؤمن وتحليله للأحداث لا يتغير؛ لأنه مرتبطٌ بمرجعٍ واحد ألا وهو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومتى أصبح هذا الحدث أو غيره من الأحداث أعظم من أن يكون موجوداً في كتاب أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨]؟ إن أي واقعةٍ، أو نازلةٍ عسكرية، أو سياسية أو اقتصادية، أو أي ظاهرةٍ من الظواهر كما يسمونها، وإن للمسلم فيها منهجاً واحداً يعود إليه في كل حال، ألا وهو هذا الكتاب الذي حوى كل شيء، وما فرط الله فيه من شيء، ولكن من الذي يستطيع أن يفهم هذا الأمر، ويستنبط هذا التحليل، ويدرك هذه الحقيقة؟ إنهم أولو الأمر منهم كما يقول جل وعلا: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:٨٣] إن أقواماً عجزت عقولهم أن تدرك استنباط تحليل الحدث من القرآن، فذهبوا يستلهمون استنباط الأحداث وتحليلها من إذاعة لندن أو من رويتر، أو من أي وكالة من الوكالات، وعجزت عقولهم أن تدرك معنى القرآن والسنة ذهبوا ليقبلوا أقوال وتحليلات البشر، وبنوا على هذا كل أمر، وتصرفوا على هذا في كل وجهٍ ومسلك.

إذا كان ذنب المسلم اليوم جهله فماذا على الإسلام من جهل مسلم

إذا تخلفت عقول بعض المسلمين أن يعرفوا كيف يحللون الأحداث، وكيف يفسرونها، وعجزت عقولهم عن تفسير ومعرفة ذلك من القرآن فليس الذنب على القرآن أو السنة، بل العتب واللوم والملامة تقع على هذه العقول المتخلفة التي عجزت عن فهم الأمور القرآنية وقبلت تحليل البشر من كل جانب، نحن لا ننكر أن نتسمع الخبر أو أن نعرف الخبر، فالخبر واقعةٌ ندركها من خلال هذه الوسائل، لكن المصيبة المرة أن نذهب ونقبل تفسير الخبر من كل ناعق، ومن كل ببغاء، ومن كل مقلدٍ ومردد، متى أصبح المسلم يفقد ميزانه؟ متى أصبح المسلم لا يملك ميزاناً يقيس به الأحداث، ويرد إليه الأمور كلها؟ {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء:٨٣].

أقول: يا معاشر الأحبة! هذه المقدمة؛ لأن في هذه الأيام راج سوق أجهزة الراديو التي تقرب الإذاعات البعيدة، والتي تصفي الإذاعات المشوشة؛ لكي يسمع الناس الأنباء صباح مساء، فإن سمعوا نبأً وتحليلاً مُطَمْئِنَاً ناموا مطمئنين، وإن سمعوا نبأً وتحليلاً مروعاً ناموا خائفين، وبالصباح مرجفين، وتراهم متقلبين، أي مسلمٍ يعير عقله إذاعةً أو يعير عقله تحليلاً لكافرٍ أو لمسلم؟ ليت عنده ذلك البعد القرآني، والفهم النبوي الذي ورد في الكتاب والسنة.

معاشر المؤمنين: هذه مسألة ينبغي ألا تغيب عن البال، وينبغي أن نعلم أنهم وإن أطبقوا وجمعوا وحللوا وأرادوا، أو توافقت وتواترت تحليلاتهم وتوقعاتهم في أمرٍ من الأمور هل سيكون غداً؟ فإن مسلماً بلغ من الجهل والغباء منزلة أن يظن أن ما توقعوه يتحقق غداً، وحتى أثبت لكم أن بعض المسلمين وقع بهم الغباء والسذاجة، والبساطة والغوغائية إلى حدٍ بعيد، خذوا هذا المثال: لو سمعنا الآن تصريحاً لأربعة من الوزراء، أو الرؤساء، أو من العسكريين، أو من المحللين والإخباريين، توافقت فيه آراء أربعة أو خمسة لانتظرنا نتيجة وتحقق هذا الحدث في الوقت والساعة واللحظة التي حللوا وقدروا أن يكون الحدث فيها، ويوم أن يقال لمسلم: إن الله يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠] تجده يتردد هل يرفع يديه أم لا؟ وهل يدعو؟ وإذا دعا هل يستجاب له أم لا؟ هنا تخرج العقيدة، وهنا يظهر جهل كثير من المسلمين أن يعتقدوا تماماً أن ما يحلله ويقوله البشر ينطبق لا محالة، وأن ما يقوله الله وإن بيتوا في نفوسهم أنه لا شك في صدق الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:١٢٢] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:٨٧] تجد أحدهم يتشكك ويتردد هل يقع أم لا؟ لماذا هذا اليقين والاعتقاد والجزم الكامل بوقوع ما تنبأ به البشر؟ وذلك الشك والتردد في حدوث ما حكم به رب البشر، أليس هذا خللاً في العقائد؟ والله إنه لخلل.

والله إننا -أيها الأحبة! - نشهد حالةً من ضعف التوكل على الله، وإن كنا نقول بألسنتنا: نحن متوكلون على الله، لكن حقيقة التوكل لم تظهر جليةً في السلوك والتصرفات والعلاقات.

مثالٌ آخر: لو قلنا لبشرٍ: كل السم، لقال: لا آكله؛ لأن السم قاتل.

ولو قلنا: ادخل النار، لقال: لا أدخلها؛ لأن النار محرقة.

ولو قلنا: ادع ربك حتى يستجيب لك في هذه النازلة والواقعة فإنك تجد الدعاء آخر سلاحٍ يفكر به، لماذا؟ لأنه يعتقد جزماً ويقيناً أن السم قاتل، وأن النار محرقة، وليس اعتقاده بنفس الدرجة في الدعاء، لماذا يا عبد الله؟! أليس هذا دليلاً على خداع النفس وضعف التوكل على الله؟ بلى والله.

وإن مثل هذه الأمور أظهرت خلل بواطن الناس وضعف قوة تنكر العقيدة في قلوبهم، يوم أن التهبت التحليلات والأنباء والأخبار في هذه الواقعة، ولا تجد أحداً إلا وجهازه عند أذنه، يسمع وينصت وإذا تكلم ولده أو زوجه سكته حتى لا يفوت قليلٌ ولا كثيرٌ من الحدث، ولو أن ذلك الوقت الذي صُرف في تتبع الإذاعات والموجات صُرف في التضرع والدعاء والخضوع لله لرد الله هذا البلاء عنهم جميعاً: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:٤٣] لكن ماذا حصل؟ لم يتضرعوا: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:٤٣] فقسوة القلوب، وضعف تمكن العقيدة فيها هو الذي جعل كثيراً من المسلمين يتخبطون حيص بيص، ويمنةً ويسرة، ويا أسفاً على أمةٍ رجالها بهذا المستوى من ضعف تنكر العقيدة!! ولا أقول كلهم، بل أقول بعضاً قليلاً حتى لا يعم شؤم الأمر عامة المسلمين.

أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نحلل كل واقعة تحليلاً قرآنياً نبوياً قبل أن نسمع تحليل الأنباء والأحداث من مختلف وكالات الأنباء العالمية وغيرها، ينبغي أن نرد الأمور إلى الله، أن نرد الأمور إلى العلماء الذين يدركون العبر، وما ذكر الله في كتابه، ويدركون حقائق الأمور مربوطةً بالقواعد الشرعية، والمصالح العامة التي تضمنها هذا القرآن وهذه السنة.