للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضحية الصحابة والتابعين]

الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث، الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، الحمد لله على مننه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.

أيها الأحبة! لو سردنا الأمثلة على تضحيات الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المخلصين، لما وسع ذلك أياماً وليالي، ولكن حسبنا أن نشير إلى ما يحرك الهمة، ويرفع الأمة من الضعف والخمود والهوان الذي أصاب كثيراً من أبنائها.

معاشر المؤمنين! إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاوضه سهيل بن عمرو على صلح الحديبية، قال سهيل: يا محمد! إنا نفاوضك على ما يلي، وذكر بنود الصلح والاتفاقية، وكان منها: أن من مفر من مكة إلى محمد من أصحاب محمد يرده محمد إلى قريش، ومن ذهب من المدينة إلى قريش فإن النبي لا يسترده، فرضي بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن الله جاعل له ولأصحابه من هذا فرجاً ومخرجاً، فلما وقعت هذه الاتفاقية، جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في أغلاله، فاراً من سجون قريش، فما بلغ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عد إلى قومك.

قال: يا رسول الله! أتتركني لهم يفتنوني في ديني، فقال صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يعلم أن الفرج من الله له ولأصحابه: (سيجعل الله لك فرجا) ووقعت هذه الاتفاقية، التي ظاهرها هزيمة للمسلمين، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فهرب أبو بصير رضي الله عنه إلى النبي من مكة إلى المدينة، فأرسلت قريش رجلين ليحضرا أبا بصير هذا الذي هرب، فلما جاءوا إلى الرسول عليه الصاة والسلام، قالوا: إنا نطلب أبا بصير أن ترده معنا، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اذهب مع القوم، قال: يا رسول الله! يفتنونني، قال: سيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً، وإنا قد أعطينا القوم عهداً وميثاقاً) فلما عاد أبو بصير معهم، والأسى يتبع الأسى، والدمع يتبع الدمع، ليس خوفاً ولا هلعاً ولا جزعاً، بل على فراق النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن أبا بصير من أذكى رجاله، وكان يقول: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه جيش) ذهب السفيران بـ أبي بصير يعودان به إلى قريش، ولما كان في الطريق، إذ بواحد من هذين السفيرين، يهز سيفاً في يده، يقول: والله لأجعلن هذا السيف يشبع من دمائهم طوال الليل واليوم، ينتظر موقعة يقابل فيها النبي وأصحابه.

فالتفت أبو بصير، قال: إن سيفك هذا لجيد، أفلا تريني، فصدق ذلك الرجل، وأراه السيف فاختطفه أبو بصير بخفة قوة المؤمن، وقطع به رأسه، وهرب الآخر، فعاد أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي: (يا أبا بصير! اذهب حيث شئت) فذهب على ساحل البحر، وجلس على طريق قريش، فما مرت قافلة إلا ونال منها غنيمة وحظاً عظيماً، حتى أرسلت قريش مبعوثاً يناشد النبي ويرجوه أن يلغي هذا الأمر من اتفاقية الحديبية.

ضحى ذلك الصحابي، واستجاب لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: هاأنا أهاجر إليك فتردني، أو هاأنا أترك القوم مؤمناً فتطردني، بل ضحى لعلمه أن الله مع نبيه، وأن الوحي حق، وأن الإله لن يضيع أمته وجنود دعوته.

كذلك الإمام أحمد بن حنبل نازعوه على مسألة والله لو فتنا فيها هذا الزمان، لأفتى الكثير ولا أقول الكل، بمئات أمثالها، كيف وقد فتنوا بما هو صريح الدلالة في القرآن والسنة، فأفتوا بما يرضي القوم ويتبع أهواءهم، وفتن الإمام أحمد بالقول بخلق القرآن، هل هو منزل أم مخلوق؟ فقال: منزل، وقال ابن أبي دؤاد: إنه لمخلوق، وثبت الإمام أحمد على الفتنة، وضحى بلذته ونعيمه، وما كان يعيش لذة نعتقدها نحن في المراكب والمفارش والطعام والشراب، بل لذة الأنس والخلوة، ومع ذلك ما زادته إلا أنساً وخلوة بالله.

وعلقوا رجله بالسقف ورأسه يتدلى، تحتقن الدماء في وجهه، وكانوا يقولون له: يا أبا عبد الله! يا أحمد بن حنبل! ما تقول في القرآن؟ فيقول: كلام الله منزل غير مخلوق، فقال الأمير: ألقوه أرضاً واجلدوه بالسياط، يا أبا عبد الله! ماذا تقول في القرآن؟ فيقول: منزل وليس بمخلوق، ولما بلغ الأمر منه مبلغاً، مد يده وقد ألقي على وجهه في الأرض يجلد، فقال الخليفة: أبا عبد الله! أتدعو عليَّ؟ لأنه يعلم أن الإمام أحمد لا يدعو على السلاطين، بل يدعو لهم بالهداية، قال: أبا عبد الله أتدعو عليّ؟ قال: لا.

وإنما أدعو ربي ألا تنكشف عورتي وأنتم تجلدوني.

وصبر على ذلك، إنها تضحية لكي تثبت العقيدة نقية واضحة سليمة من أن تدنسها أفكار المعتزلة، أو أن يدخل بها ما لا يليق أو ينبغي لها.

بعد هذا كله أسألكم أنتم الآن بماذا ضحيتم؟ أي أضحية قدمتم لدين الله جل وعلا؟ هل سمعتم بواحد قدم ذات يوم راتبه كله، وقال: هذا للمجاهدين في سبيل الله، ولو مرة في العمر، هل فعلناها يا إخوان؟ هل سمعنا أن شاباً من طلبة العلم أو من أمثالنا الضعفاء الفقراء، الذين يظن الناس بهم خيراً وهم أضعف الناس إلى الله جل وعلا، جعل شهراً يجوب البلاد يدعو إلى الله جل وعلا في كل سنة؟ جزء من التضحية لا نجده ولا نراه، هل سمعتم أن امرأة تصدقت بمهرها للمجاهدين في سبيل الله، أو لإعلاء كلمة الله، أو لنصرة دين الله، أين التضحيات؟ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أبايعك على الإسلام بشرط ألا أجاهد ولا أتصدق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة؟!) الجهاد والصدقة يا عباد الله! والدعوة والبذل، والتضحية والإيثار في سبيل الدين.

إننا نعيش أمناً وثراءً ونعماً لا يحصيها إلا الله، ثمرة تضحيات سلفت، ولأجل دوامها لا بد أن نضحي، وإن كان حجم التضحيات في هذا الزمان لن يبلغ ما بلغه الأوائل إلا ما شاء الله، ولكن أين من يضحي منا؟ أين من يبذل؟ أين من يجعل بذل الجهاد والدعوة هماً يومياً كالطعام والغداء والفطور والعشاء؟ لا والله يا عباد الله! إني أدعوكم بدعوة الله لكم أن تتعلموا التضحية والإيثار بساعة من أربع وعشرين ساعة، اجعلوها لله جل وعلا، بيوم من شهر واحد، اجعلوها لله جل وعلا، بأسبوع من سنة كاملة، فرغوها للدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، واجعلوا صنيديقاً، ولا أقول خزينة، اجعلوه في مجالس بيوتكم، وكلما زل الإنسان بزلة، فليتصدق كفارة عن الزلة، وليتصدق نماءً للمال، وليبذل نشراً للدعوة، وبقاء وعوناً على حفظ العقيدة، وفي نهاية كل شهر كل يقدم خزينة صندوقه لوجه الله.

لو كان المسلمون على هذا المستوى من البذل لدينهم، والله لاستطاعوا أن يغرقوا الأعداء وأن يهلكوهم، ولكن لله في ذلك حكمة {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:١١٢] فما أنتم فاعلون يا عباد الله؟! الدين يحتاج إلى تضحية، والعقيدة تحتاج إلى بذل، وهما خياران إما موت وإما حياة، هما أمران إما حياة بعقيدة، وإما جبن وشح وهوى وبعد عن التضحية، وبقاء على الذلة والهوان، نحن في نعمة نريد أن نحفظها بالتضحيات.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.