للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام السلف عن زاد الآخرة]

قال مجاهد: خطب عثمان بن عفان، فقال: ابن آدم! اعلم أن ملك الموت الذي وكِّل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك مذ أتيت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك، فخذ حذرك واستعد له، ولا تغفل فإنه لا يُغفل عنك، واعلم يا ابن آدم أنك إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها، لن يستعد لها غيرك ولا بد من لقاء الله، فخذ لنفسك ولا تكل نفسك إلى غيرك والسلام.

ويقول: أحمد بن إسحاق الحضرمي: سمعت صالحاً المري يتمثل بهذا البيت في قصصه:

وغائب الموت لا ترجون رجعته إذا ذوو غيبةٍ من سفرة رجعوا

قال: ثم يبكي ويقول: هو والله السفر البعيد فتزودوا لمراحله، فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أنكم في مثل أمنيتهم، فبادروا الموت واعملوا قبل حلوله، ثم يبكي.

كانوا يستعدون للرحيل؛ فعن أحمد بن عبد الله، قال: قيل لـ حاتم الأصم: علام بنيت علمك؟ قال: بنيت علمي على أربع: على فرضٍ لا يؤديه غيري فأنا به مشغول، وعلمت أن رزقي لا يجاوزني إلى غيري فقد وثقت به، وعلمت أني لا أخلو من عين الله طرفة عين، فأنا منه مستح، وعلمت أن لي أجلاً يبادرني فأبادره.

كانوا يتزودون للرحيل، وكانت امرأة أبي محمد الفارس توقظه في الليل وتقول: قم يا حبيب، فإن الطريق بعيد وزادنا قليل وقوافل الصالحين سارت من بين أيدينا ونحن هنا ماكثون.

تزودوا أيها الأحبة! ولنتزود أيها الأخ المحب! ويا أيتها الأخت الصالحة! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فما أحوجنا إلى هذه التقوى التي هي نعم الزاد للراحلين! أيا أخيّ! وأيا أخيه! إن للعمر أيامه، وإن للحياة نهايتها، ولا ندري متى تنقضي أيام العمر ومتى تبلغ الحياة غايتها.

إن الموت حقيقة لا يكابر فيها مكابر ولا يجادل فيها ذو العقل؛ لأن الموت مشاهدٌ مكرور، وإن كان الناس عنه غافلون أو متغافلون، ومع ذلك فكل حيٍ سبيله الموت والرحيل عن هذه الحياة.

يا أخيّ! ويا أخيه! نحن قومٌ مسافرون، والطريق طويل، والعقبات كثيرة،، فلنتزود لآخرتنا من دنيانا، ولا تلهنا هذه الدنيا عن غايةٍ، فنضل عن الطريق.

يا أخيّ! ويا أخيه! فلنتزود بتقوى الله، فإنه زادٌ سيصبح ثمنه غالياً، وترتفع سوقه، ويربح طالبه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:١٩٧].

يا أخيّ! ويا أخيه! لا ألفينك أو تلفيني وقد انقضت حياتنا، وحان حيننا، وولت عنا الدنيا مدبرة، ونظرنا إلى ماضي أيامنا، فإذا بنا نشاهد ماضياً أليما، وأياماً سوداء قاتمة قضيناها في عصيان رب العالمين، وقد خدَعَنا من الحياة مظهرنا، وغرنا من الحياة زخارفها

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

المبادرة لا بد منها قبل حلول الأجل، وإننا مهما لهثنا، ومهما ركضنا، ومهما جمعنا، ومهما أسرعنا، فلن تنتهي الأشغال، ولن نبلغ الآمال، وستموت النفوس بأناتها وحسراتها، ما لم تكن مشغولة في طاعة الله، أوصى الشريف المحدث الرحال أبو محمد جعفر بن محمد العباس الذي توفي في عام (٥٩٨هـ) أوصى أن يكتب على قبره: حوائج لم تقض، وآمالٌ لم تنل، وأنفسٌ ماتت بحسراتها.

إذاً فما الذي ينفعنا إلا عمل صالح ندخره للرحيل ونجعله الزاد، ونجعله سفينة النجاة في بحار الشهوات، في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي، قال: وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟).

فلا ينفعك أيها الأخ! ولا ينفعك أيتها الأخت! لا ينفع أحدٌ من المال إلا ما قدم لنفسه وأنفقه في سبيل الله عز وجل، فأما ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه؛ إلا أن يكون فيه نية صالحة، وأما ما خلفه وتركه فهو لورثته لا له، وإنما هو خازن لورثته، فأما ما أنفقه في المعاصي فهو عليه لا له، وكذلك ما أمسكه ولم يؤد حق الله عز وجل فيه فهو عليه لا له.