للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عمارة المساجد المعنوية]

ونعني بها اهتمام المجتمعات الإسلامية بمساجدهم، إن طوائف كثيرة من المسلمين يظنون أن المسجد فقط للأذان، ثم للإقامة، ثم للصلاة، ثم تغلق أبواب المساجد بعد ذلك، لا والله! ما شيدت المساجد لكي يستفاد منها أربع ساعات أو خمس ساعات في اليوم والليلة فقط، بل شيدت لتكون مساراً للذاكرين والتالين والقارئين وطالبي العلم والمتعلمين والمتفقهين والدارسين، إن هذه المساجد شيدت لكي يفزع ويضرع إلى الجلوس فيها لمناجاة الله جل وعلا من هَمَّ بمحاسبة نفسه؛ لكي يخلو فيها مع نفسه خلوة تدبرٍِ واستغفارٍ ومحاسبةٍ وتذكر، فلو أن كل المساجد لا تفتح إلا في ساعاتٍ معينة من اليوم والليلة فقد حصرت مكانة المسجد في الأذان والإقامة والصلاة، إنما مكانة المساجد أن تكون خلية نحلٍ يرد الناس إليها ويصدرون عنها، مليئة عقولهم وأفئدتهم بالذكر وبالعلم النافع والمواعظ الحسنة.

فيا عباد الله: انتبهوا لهذا الأمر المهم انتبهوا لهذا الدور العظيم للمسجد، إن كثيراً من مساجدنا لا نرى لها دوراً إلا الصلاة والنداء والإقامة فقط، فلو فتشت في جنبات المسجد فلن ترى فيه مكتبةً تضم أهم الكتب النافعة، وأمهات كتب مذاهب الإسلام العظيمة، وكتب الحديث والتفسير، والفقه والعقيدة، لوجدتها خلواً من هذا العلم العظيم، ولو تأملت هل يوجد فيها من الأشرطة السمعية النافعة فيما حوته من كلام العلماء الثقات الأجلاء لوجدتها خلواً من هذا كله.

إن هذين الأمرين لمن أهم الأمور التي ينبغي أن نعتني بها، وأن نقررها ونثبتها في مساجدنا، لكي تكون المساجد خليةً يرد إليها كل منهوم لعلم، ويصدر عنها ريان النفس والفكر، عبقاً بالمواعظ والنفع والفوائد والأحكام.

فانتبهوا لذلك -يا عباد الله- وتفقدوا مساجدكم، فأي مسجدٍ ترونه خلواً من هذا فاعتنوا بعون الله جل وعلا على إنشاء المكتبة النافعة، سواء كانت داخل المسجد أو في جنبة من جنباته، أو خارج المسجد أو قربه، المهم ألا يخلو المسجد من مكتبةٍ إسلاميةٍ نافعة، مكتبة مقروءة، ومكتبة مسموعة.

كذلك أيها الأحبة في الله: ينبغي ألا تخلو المساجد من حلقات الذكر، وحلق تعليم القرآن الكريم، وفي هذا المقام نشكر الله جل وعلا، ثم نشكر الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن، التي كان لها دور عظيم منذ سنين عديدة، كان لها الأثر السباق، وكان لها الفضل الأجل بعد الله جل وعلا في تأسيس كثيرٍ من هذه المدارس الخيرية، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء.

أيها الأحبة في الله: إن كثيراً من المسلمين يعتنون ببناء المساجد، ولكن المؤسف حقاً أن ترى ملايين طائلة قد بذلت وأنفقت وصرفت في بناء مسجد واحد، وما زالت مناطق أخرى يصلي الناس فيها تحت البناء البدائي من الحجر والسقف المخشب ونحو ذلك، فلو أن من قام ببناء مسجدٍ أنفق عليه هذه الملايين الطائلة قسم هذه المبالغ لكي يبني بها عدداً أكبر من المساجد لنال بذلك خيراً عظيماً، واعلموا أن أهم ما تحتاج إليه المساجد، إن كان من الجوامع أن يكون في مكانٍ محاطٍ بالفسحة والرحبات الواسعة من جوانبه، لكي يتمكن الناس أن يجتمعوا فيه، ولكي يكون أهلاً أن يجمع فيه، أما ما نراه اليوم من كثرة مساجد الجمع فهذا فيه مخالفةٌ للسنة، وإن كان الأمر قد اضطر القائمون إليه اضطراراً لعدم التقدير الدقيق، وهذا ليس راجعاً إليهم، لأن المناطق لا تعلم سلفاً من سيجتمع فيها ومن سيفترق عنها، إلا أن من الواجب أن تقلل الجوامع، وأن تكون مركزيةً، ففي كل جهةٍ وفي كل منطقة، عددٌ محدودٌ من الجوامع والمساجد حتى نعتني بتطبيق السنة في أمر الجمعة، أما ما نراه في كثيرٍ من الناس، ومطالبتهم وإصرارهم وإلحاحهم على كثيرٍ من المسئولين بأن تكون مساجدهم مساجد جمعة، فهذا ليس بسبيل، وليس هذا في طريقٍ مشروع، فالواجب أن نعتني بالسنة، وأن نجتهد في معرفة الجوامع معرفةً دقيقة، وأحكامها، وما ينبغي لها، ومواقعها، ولو كان ذلك على حساب التجميع في مساجدنا التي نعلو بها، أو التي نعتني بها، فنسأل الله أن يمن على القائمين بهذا الأمر، وأن يلتفتوا إليه التفاتاً مهماً.

أيها الأحبة في الله: إننا ينبغي أن ندرك أن عمارة المسجد بإقامة الصلاة فيها من أهم الأمور، إن كثيراً من الناس قد يعمرون مساجد لا يشهدونها، ويقيمون بيوتاً لا يصلون فيها، إن أهم عمارة للمساجد أن يجتمع الناس للصلاة فيها، وإن المساجد في هذا الزمان لتشكو إلى ربها هجر المصلين، لتشكو إلى ربها ضعف المسلمين من العناية بعمارتها، والصلاة مع الجماعة فيها، وليسأل كل واحدٍ منكم نفسه، فَسِّروا واشرحوا وعللوا؛ لماذا لا ترون صفاً مكتملاً أو صفين مكتملين في صلاة الفجر؟! أين أولئك الذين يملئون المساجد؟ هل عرج بهم إلى السماء أم خسف بهم باطن الأرض؟ أم خطفت أرواحهم في ليلةٍ واحدة؟! إنه لأمرٌ عجيب غريب والله يا عباد الله!! وما الجواب في ذلك إلا ضعف العناية بعمارة المساجد، وضوى الجهل بالفضيلة الجليلة العظيمة بالمشي إلى المساجد، حتى ولو كانت بعيدة، فإن كل خطوة إلى المسجد يخطوها العبد لترفع له بها درجة ولتحط عنه بها خطيئة.

جاء بنو سلمة يريدون أن يقتربوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن دُورَهُم بعيدة شيئاً ما عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) والتقدير: الزموا دياركم وابقوا في أماكنكم، ولا تُقرِّبوا مساكنكم؛ لأن الآثار والخطا لتشهد لمن قام بها عند الله جل وعلا يوم القيامة.

إن الأزقة والطرقات لتشهد عند الله جل وعلا: لفلان بن فلان يوم كان يعبرها متجهاً في طريقه إلى المسجد، والملائكة تشرح له جنبات الطريق، فلم هجر المساجد؟! ولم هذه الجفوة عن صلاة الفجر خاصةً في المساجد؟! اسألوا وتواصوا وتناصحوا ومروا بعضكم بالمعروف وتناهوا عن المنكر، واعمروا بيوت الله بأجَلِّ فريضةٍ من فرائض الله ألا وهي الصلاة بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.