للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا يمكَّن العبد حتى يبتلى

معاشر المؤمنين: إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن وضع سلا الجزور على ظهره، وإن نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو خير من ركب المطية، لم يمكن إلا بعد أن جعل الشوك في طريقه، إن نبيكم لم يمكن إلا بعد أن طرد وأخرج من مكة، وإن نبيكم لم يمكن إلا بعدما ذهب إلى الطائف إلى بني عبد ياليل بن كلال، فصفوا له الصبيان سماطين كما يقول ابن كثير في السيرة: جعلوا الصبيان له صفين، وأخذوا يرمونه بالحجارة ويدمون عقبه، وماذا بعد ذلك؟ عاد صلى الله عليه وسلم حتى آواه السير إلى قرن الثعالب وهو يدعو ربه (اللهم أنت ربي ورب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي) فلنقل هذا الدعاء جميعاً، ولنعلم أن هذا البلاء هو طريقة عودةٍ إلى بلادنا بعزةٍ وتحكيم شريعةٍ ونصرة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا هو مقتضى النصيحة يا عباد الله.

إن كنا أخرجنا من الكويت فقد أخرج صلى الله عليه وسلم من مكة، وقال صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجراً والتفت إليها: (اللهم إنك أحب البقاع إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فلكم في رسول الله عبرة، ولن نكون أفضل حظاً وأحسن حالاً من المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أخرج من مكة، لكن الله جل وعلا جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية.

فآواه الله وأيده ونصره بطائفة من المؤمنين في المدينة، فقامت دولته في المدينة، التي يسميها السياسيون في هذا الزمان حكومات المنفى، إنها حكومة الحق والعدل والصدق والتمكين، فعاد إلى مكة فاتحاً، وقد ناله ما ناله قبل أن يفتح مكة.

جاء صلى الله عليه وسلم معتمراً، فردته قريش وحبسته دون البيت، وسلت السيف مانعة له وصحبه أن يدخلوا مكة فجاءوا إلى صلح الحديبية، فلما وقف النبي مع سهيل بن عمرو مفاوض أهل مكة وكان خطيباً فصيحاً، وكان ذلقاً ملسوناً، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، لا نعرف إلا رحمن اليمامة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسمك اللهم، ثم قال: هذا كتاب من محمد رسول الله) فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: (إذاً أكتب من محمد بن عبد الله).

اسمعوا وتأملوا ما حل لنبيكم، فلكم فيه أعظم الأثر والعبر، فكتب من محمد بن عبد الله هذا كتاب إلى قريش أن من خرج من مكة إلى المدينة فإن محمداً يرده، ومن خرج من المدينة إلى مكة فإن محمداً لا يسترده، فغضب عمر بن الخطاب وسل سيفه، وقال: (يا رسول الله! ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أليسوا بالكافرين؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ أفلا تدعني أخلع ثنية هذا الكافر الذي يفاوض، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر! لعل الله أن يريك من هذا يوماً يعز الله به الإسلام والمسلمين).

وكان أبو بكر يقبض ويمسك بتلابيب عمر، ويقول: أليس هذا رسول الله؟ الزم غرزه، فإن الله لن يضيعه.

وكانت عاقبة حميدة لما وقعت هذه الاتفاقية وعاد المؤمنون وحلوا ولم يعتمروا، عادوا إلى بلدهم، فخرج أبو بصير رضي الله عنه هارباً إلى المدينة، فلحقت به قريش وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد! العهد والميثاق بيننا وبينك، رد إلينا من خرج من صبياننا إليك، فجاء النبي والتفت إليه، وقال: (يا أبا بصير! عد مع القوم فإنا أعطيناهم العهد والميثاق، فقال أبو بصير: يا نبي الله أتدعهم يفتنوني في ديني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جاعل لك مخرجاً).

فعلم ذلك الصحابي بهذه الكلمة التي مُلئت فرجاً وسعة أن الله لن يضيعه، فخرج مع المشركين، وبينما هم في الطريق إذا قال أحدهم وقد سل سيفه يتأمله، قال: والله ليشرب هذا السيف من رقاب محمد وصحبه، فقال أبو بصير: إن سيفك هذا جيد، فأرني إياه، فصدَّق ذلك وأعطاه السيف، فالتفت به أبو بصير فضرب به عنق الأول وهرب الثاني، وجعل الله لـ أبي بصير مخرجاً.

ثم لزم الساحل، ووقف في طريق عير قريش، فما مرت قافلة إلا ونال منها حظاً وخيراً وفيراً، حتى أرسلت قريش مندوباً ومبعوثاً يقول: يا محمد! علك أن تلغي العهد والميثاق بيننا وبينك.

الله أكبر يا عباد الله! يقول الله جل وعلا: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} [التوبة:٤٨] إن كل تقليب وتدويل وعبث ولف وغيره بقضايا المسلمين سواءً في أفغانستان أو في الكويت أو في فلسطين، يقول الله جل وعلا: {وَقَلَّبُوا لَكَ} [التوبة:٤٨] لك أنت، إذاً فتقليب الأمور عائدٌ لنا معاشر المؤمنين: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} [التوبة:٤٨] وإنا لنرجو الله أن يجعل ظهور الحق قريباً.