[العاقل من لا يؤثر الخسيس الفاني على الجميل الباقي]
تزود للرحيل، واسمع ما يقوله ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح يقول: العجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه، وكل نفس من أنفاسه لا قيمة له إذا ذهب لم يرجع إليه، فمصائب الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين حمل ويصار به، أعظم من سير البريد، ولا يدري إلى أي الدارين ينقل، فإذا نزل به الموت اشتد قلقه لخراب ذاته وذهاب لذاته، لما سبق من جناياته وسلف من تفريطه حيث لم يقدم لحياته، فإذا خطرت له خطرة عارضة، دفعها باعتماده على العفو وقال: قد أنبأنا أنه هو الغفور الرحيم، وكأنه لم ينبأ أن عذاب الله هو العذاب الأليم، ولما علم الموفقون ما خلقوا له، وما أريد بايجادهم، رفعوا رءوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم، فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضع لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في أبدٍ لا يزول، بسبابة عيش، وإنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في منام، مشوب بالنغص ممزوج بالغصص، وإن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره متالف، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني والخسيس على الحظ الباقي، وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق، مسافحات أو متخذات أخدان، وحوراً مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، وجلوس على منابر الياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وتحيوا فلا تموتوا، وتصبوا فلا تهرموا.
ونادى بغناء المغنين:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
وإنما ظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً، وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رءوس الأشهاد: ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم بين العباد، فلو علم المتخلف عن هذه الرفقة -لو تذكر الغافل، العاصي، المعرض عن الهداية، والاستقامة، الذي يصد عن الخير- لو تذكر المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم وادخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفى لهم من قرة أعين، لم يقع على مثلها بصر، ولا سمعته أذن ولا على قلب بشر خطر، لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته وهو معجوز من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً، ذلك المضيع الغافل المفرط اللاهي المصر على المعصية، المعرض عن التوبة، إذا علم أن القوم الصالحين، قد توسطوا ملكاً كبيراً، لا تعتريه الآفات ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم، في جوار الكبير المتعال، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:١٩].