للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأخذ من الدنيا للبرزخ والآخرة]

ولن يعرف الطريق إلى الجنة من لم يأخذ من دنياه لبرزخه ثم لآخرته، أنت الآن في هذه الإضاءة، فأين الإضاءة في القبر؟ وأنت الآن في النور، فأين النور في اللحد؟ وأنت الآن في السعة، فأين السعة في المقبرة؟ وأنت الآن تحت المروحة والمكيف، فهل تجد مروحةً أو مكيفاً في القبر؟ وأنت الآن تأنس بمن حولك، فهل ستجد أربعة أو خمسة يحدثونك في قبرك؟ والله لا ينفعك إلا عملك الصالح، والله لا يسرك إلا عملك الصالح، دع عنك أولئك الذين زينوا وزخرفوا، وقربوا وقلبوا وغيروا لك الأمور، دع عنك أولئك فوالله ما منهم أحدٌ يسر، ولو كان أحدٌ في الدنيا يسر صاحبه لنفع الابن أمه، والرجل زوجته، والولد أباه، ولكن: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧].

أيها الأحبة: من أدرك ذلك فليهيئ للسفر مركب التوبة، وليبدأ بدايةً صادقة، لو أن الحاضرين في هذا المسجد الآن كلٌ منهم عاهد الله بتوبةٍ صادقة؛ إن كان مقصراً أن يتمم، وإن كان مخطئاً أن يقلع، وإن كان مسرفاً أن يتوب، لو أن كل واحدٍ من الحاضرين بدأ وقطع العزم على نفسه أن يهيئ مركب السير في الطريق إلى الله جل وعلا، لانتشر الخير في كل بقعة من بقاع الأرض، كم عدد الحضور؟ سمِّ ما شئت من العدد، كل واحد منهم تاب إلى الله توبةً نصوحاً، وكانت ثمار التوبة أن لو كل واحد دعا اثنين ممن يعرف، وكل اثنين دعوا اثنين ممن يعرفون لانتشر الخير، لا أقول في عشيةٍ وضحاها، ولكن في فترة يسيرة من الزمن.

ولكن أيها الأحبة: ما أكثر ما نسمع قلوباً تعرف، وألسنةً تصف، وأفعالاً تخالف، الران قد علا قلوبنا، الصغائر قد تساهلنا بها: هذه صغيرة، هذه كلمة لكن لا نقول: غيبة، هذه نظرة لكن لا نقول: ليست لغضٍ للبصر، هذا موقفٌ أو تساهل لكن لا نسميها باسم المعصية، بل نسميها باسم آخر، ولو حاسبنا أنفسنا محاسبة الشريك لشريكه لوجدنا أننا قد أكثرنا على أنفسنا من السيئات، ولأجل ذلك خربنا مركب السير.

لو أن سيارة سليمة في قارعة الطريق، ولكن أبوابها مفتوحة، فجاء طفلٌ وعبث بسلك، وآخر عبث بالمقود، والثالث عبث بالإشارة، والرابع عبث بكذا وكذا، فعلى مدى الأيام وجدت هذه السيارة السريعة المطيعة خربة لا تنفع ولا تصلح أن تكون دابة تمشي بك ولو كيلو متر واحد لماذا؟ لأنك فتحت أبوابها لكل راكب، وجعلتها عرضةً لكل مخرب، فكذلك من فتح أبواب نفسه لكل جليس، ولكل صديق ورفيق وصاحب طريق، إنه يجلب على نفسه خراب دابته إن عاجلاً أو آجلاً.

نعم.

تساهلنا بالصغائر ونخشى أن نكون ممن طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم.