للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من رحيل الصالحين]

روي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عند احتضاره قال لـ ابن مسعود رضي الله عنه: قم فانظر أي ساعة هي؟ فقام ابن مسعود، فقال: قد طلعت الحمراء- أي الشمس- فقال حذيفة: أعوذ بالله من صباح إلى النار، أعوذ بالله من صباحٍ إلى النار، وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه بكى عند موته، ثم قال: والله ما أبكي حزناً على الدنيا ولا جزعاً من فراقكم؛ ولكني أنتظر إحدى البشريين من ربي بجنة أم نار، ولما حضرت بلالاً رضي الله عنه الوفاة، قالت امرأته: واحزناه! فقال: بل وا طرباه! غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه، ولما توفي عبد الله بن المبارك سنة (١٨١هـ) بعد انصرافه من الجهاد وله من العمر ثلاثٌ وستون سنة، لما احتضر قال ابن المبارك لمولاه نصر: اجعل رأسي على التراب، فبكى نصر، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت ما كنت فيه من النعيم وهأنت ذا تموت فقيراً غريباً، قال: اسكت! فإني سألت الله أن يحييني حياة الأغنياء وأن يميتني موت الفقراء، ثم قال له: لقني ولا تعد علي ما لم أتكلم بكلامٍ ثانٍ، ثم فتح ابن المبارك وضحك، وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، وتشهَّد ثم فاضت روحه، لماذا قال: لمثل هذا فليعمل العاملون؟ لقد رأى البشارة مع ملك الموت يبشره برضوانٍ وروحٍ وريحان، وربٍ راضٍ غير غضبان، يروي مطرف اللحظات الأخيرة من عمر الإمام القدوة سلمة بن دينار، يقول: دخلنا على أبي حازم سالم الأعرج -أي: سلمة بن دينار - لما حضره الموت، فقلنا: كيف تجدك؟ قال: أجدني بخير، راجياً لله، حسن الظن به، إنه والله ما يستوى من غدا أو راح يعمر عقد الآخرة لنفسه فيقدمها أمامه قبل أن ينزل به الموت حتى يقدم عليها فيقوم لها وتقدم له مع من غدا أو راح في عقد الدنيا يعمرها لغيره ويرجع إلى الآخرة لا حظ له فيها ولا نصيب، وأتى صفوان بن سليم إلى محمد بن المنكدر وهو في الموت، فقال: يا أبا عبد الله! كأني أراك قد شق عليك الموت، فما زال يهون عليه الأمر حتى كأن وجهه المصابيح، ثم قال له محمد: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك، ثم قضى وفاضت روحه رحمه الله.

رحيل الصالحين بشائر، رحيل الصالحين كرامات، رحيل الصالحين فوزٌ وسعادة وحبور، وهذه صورة لرحيل أحد الصالحين وهو عمر بن عبد العزيز، تقول فاطمة بنت عبد الملك: كنت أسمع عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار، اللهم اخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار، قالت: فقلت له يوماً: يا أمير المؤمنين! ألا أخرج عنك عسى أن تغفي شيئاً فإنك لم تنم؟ قالت: فخرجت عنه إلى بيتٍ غير البيت الذي هو فيه قالت: فجعلت أسمعه يردد {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣] تقول: سمعته يرددها مراراً، ثم أطرق فلبث طويلاً لا يسمع له حس، فقلت لوصيفٍ له كان يخدمه: ويحك انظر ما الذي حل بـ عمر؟ فلما دخل صاح، قالت: فدخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه على القبلة ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه رحمه الله.

وأقوامٌ يتكلمون عند الرحيل من هول ما يجدون، وأقوامٌ يندمون على ما فرطوا، وأقوامٌ يقولون عبراً ومواعظ عند موتهم، فلما نزلت بـ عبد الملك بن مروان في مرضه الذي مات فيه، لما نزل به الموت، قيل له: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:٩٤] وروي أن المأمون أمر برمادٍ، فجيء به إليه، فمده وافترشه لما حضرته الوفاة، واضطجع عليه وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه، يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.