للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة إلى الهجرة إلى الله ورسوله]

أيها الشاب! العمر عمران، والميلاد ميلادان: أما ميلادك الأول فهو خروجك من ظلمات رحم أمك إلى نور الدنيا، وذلك عمر وميلاد يشترك فيه كل الخلائق، المسلمون والكفار والأبرار والفجار، وأما العمر الحقيقي وأما الميلاد الحقيقي هو يوم أن يخرجك الله من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وهذا الميلاد لمن وفقه الله، وأناب إلى الله، وتاب إلى الله {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:١٢٢]، يقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} [الأنعام:١٢٢] ميت في الضلالة، ميت في المعصية، وفي الفاحشة، وفي اللهو، وميت في الغفلة، وفي ترك الطاعة، وميت في أمور كثيرة والعياذ بالله، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢].

فبادروا بادروا، وسابقوا سابقوا، وهلموا هلموا، وأنيبوا أنيبوا يا شباب الإسلام!

حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار

فاقضوا مآربكم سراعاً فإنما أعماركم سفر من الأسفار

وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عواري

ودعوا الإقامة تحت ظل زائل أنتم على سفر بهذا الدار

من ذا يرجي العيش فيها إنما يبنوا الرجاء على شفير هار

والعيش كل العيش بعد فراقها في دار أهل السبق أكرم دار

شيئان ينقشعان أول وهلة شرخ الشباب وخلة الأشرار

لا بد أن تعلم أن هذه النهاية قريبة وأنها متحققة فبادر بالنقلة، وبالتوبة، وبالهجرة إلى الله، والهجرة إلى رسول الله، والهجرة في طاعة الله، كما قال الإمام الجهبذ النحرير شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، يقول: الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله.

أيها الشباب! نحن ندعوكم وندعو أنفسنا، أن نهاجر اليوم، وأن نهاجر هذه الساعة، هجرة بقلوبنا إلى الله ورسوله؛ وهذه هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، لا يهاجر أحد ببدنه إلا إذا هاجر قلبه، وهي هجرة تتضمن من وإلى، فيهاجر العبد بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله، ويهاجر من عبودية غير الله إلى عبودية الله، ويهاجر من خوف غير الله ورجاء غير الله والتوكل على غير الله إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، يهاجر من دعاء غيره، وسؤال غيره، والخضوع لغيره والذل والاستكانة لغيره إلى دعاء وسؤال وخضوع لله، وذل واستكانة بين يدي الله، وهذا معنى قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠] نفر من الله إليه، الهجرة القلبية، الهجرة التي يحتاجها الناس صباح مساء، ليلاً ونهاراً في كل زمان ومكان، أن يهجروا بقلوبهم كلما يصرفهم عن طاعة الله عز وجل، يقول ابن القيم: والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصل الهجرة الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر، وإذا كانت نفس العبد وهواها وشيطانها إنما يدعونه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث فلا يزالون يدعونه أي: الهوى والنفس والشيطان، لا يزالون يدعونه إلى مرضاة غير الله، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرته إلى الممات.

أيها الأحبة! أوجز ما بقي من هذه الكلمات لكم ولمن وراءكم ممن تتعبدون الله جل وعلا بنصحهم ودعوتهم حتى تقوم الحجة، وحتى تبرأ ذمتكم بدعوتهم إلى الله عز وجل، نقول: إن حاجتنا في هذا الزمن إلى هجرة إلى الله ورسوله، هجرة حدها كما يقول ابن القيم: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، وكل منزلة من منازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى ومنبع النور المنتقى من فم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعده من أهل الريب والشبهات، فهذا حد هذه الهجرة والمقصود كما يقول ابن القيم: إن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعن هاتين الهجرتين، يسأل كل عبد يوم القيامة في البرزخ ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.

قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟ وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادة، ولئن سأل سائل منكم -أيها الأحبة- عن هذه الهجرة، وكيف نجد دابة ومركباً يوصلنا ويبلغنا إلى مقاصد هذه الهجرة، فاسمعوا ما يقول رحمه الله: وأما مركبه فصدق اللجوء إلى الله والانقطاع إليه بكليته، وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة إليه، وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المفتون الفارغ، الذي لا شيء عنده، فهو يتطلع إلى قيمه ووليه أن يلم شعثه وأن يمده من فضله وأن يستره، فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها، ألا فلنتزود قبل الرحيل، ألا فلنستعد قبل الرحيل، فإن الموت يفاجئ.

يا أيها الشباب!

يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل