للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طول الأمل من أسباب الغفلة]

إن من أسباب الغفلة -أيها الأحبة- طول الأمل، هذا الذي ينزعج حينما تعظه وتخوفه من الغفلة التي هو واقع فيها، لو كان يعلم أن المنية ربما تأتيه، تصبحه أو تمسيه لاستعد لها، ولكنه في أمل طويل، لا بأس أن توقع لمشروع لعشرين سنة قادمة، لكن لا يعني أن تغفل مدة عشرين سنة، لا بأس أن تؤجر عمارتك عشر سنوات قادمة لكن لا يعني أن تكون في غفلة وفي جهل خلال عشر سنوات قادمة، وهل يلزم أن تعيش هذه الفترة كلها؟ نعم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم -أي الساعة- حتى يغرسها فليغرسها فإن له بذلك أجراً).

لا بأس أن تؤجر -كما قلت- عشرين سنة، عقد ثلاثين سنة، خطة خمسية، عشرية، ربع قرن، ليس هناك إشكال، خطط لخمسين سنة قادمة لا إشكال، خطط للدعوة -أيضاً- خمسين سنة قادمة، ليس التخطيط فقط للهاتف أو للمواصلات أو للنفط أو لأمر آخر لا، خطط للدعوة -أيضاً- لمدة خمسين سنة قادمة، ما يمنع ذلك، لكن لا يعني أننا سنعيش خمسين سنة، لا يعني أننا سنعيش عشرين سنة إذا وقعنا عقد إيجار مدته عشرين سنة، فمشكلة كثير من الناس طول الأمل الذي أهلكهم وضيعهم، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل].

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت ويئس من الحياة أفاق من سكرته في شهوات الدنيا؛ فندم على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحاً فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه مع سكرات الموت حسرات الفوت.

وقد حذر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح فقال سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:٥٤ - ٥٦] أحد الذين حضرتهم المنية وبلغت به الروح الحلقوم، أخذ يلطم وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:٥٦] وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهب بأيامي.

وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني.

إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون

ما دمنا في هبوب ريح العافية وإقبال ريح الشباب، ما دمنا في قوة، ما دمنا في منعة رجالاً ونساءً، فماذا علينا لو أننا رجعنا إلى الله رجوعاً صادقاً وعدنا إلى الله عوداً حميداً فيجعل الله سيئاتنا حسنات؟ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] يا معاشر الإخوة! ويا معاشر الأخوات! بادروا بادروا فوالله ما ندري متى نفارق، بادروا بادروا فالذنوب كثيرة والعمل قليل ولا ندري من المقبول، بادروا بادروا فجنود الشيطان وأعوانه قد جرت في الدماء ووسوست في الصدور، وزخرفت المعاصي، وقربت الخطيئات، وجعلت الهوى مطاعاً، والشح متبعاً، بادروا بادروا اليوم بل الآن قبل أن نعجز عن الاستدراك.