للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سعة رحمة الله مدعاة للرجاء]

عباد الله! ينبغي لكل مسلمٍ أن يحسن العمل والرجاء والظن، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي) وفي رواية: (فليظن بي ما شاء) وروى مسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) واعلموا -يا عباد الله- أن العبد المذنب إذا تاب وأقلع عن الذنوب والمعاصي، فإنه يكون بأمس الحاجة إلى رجاء رحمة ربه وعفوه وغفرانه، إذ أن بعض العصاة والمذنبين يردهم اليأس والقنوط عن التوبة والإنابة، ولاشك أن هذا من كيد الشيطان ووسوسته حينما يأتي الشيطان يلعب به، فيقول له: أذنبت، وعصيت وفعلت ما حرم الله عليك، فأنى لك بالتوبة؟ وكيف تدرك التوبة وقد فعلت ما فعلت؟ ولا يزال الشيطان بالعبد يجعله يائساً من رحمة الله، ويقنطه من مغفرة ربه، حتى يصل به إلى اليأس والقنوط، بل إن بعضهم قد يصل به الأمر مع الشيطان أن يقول له: اكفر بالله، ثم أسلم؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ويمحو ما قبله، ومن يضمن للعبد المسكين أن يعيش بعد كفره إلى أن يجدد إسلامه، وأنى للعبد في هذه المرحلة وفي هذه المعركة الرهيبة مع الشيطان إلا أن يجدد رجاءه وعزمه بالله.

وعلى ذلك فالواجب على كل مسلمٍ مهما كثرت ذنوبه وكثرت معاصيه أن يتوب إلى الله توبةً صادقةً نصوحاً، ثم يكثر من الحسنات الماحيات للسيئات، ثم يحسن رجاءه لربه، ويحسن ظنه بخالقه، وليتذكر قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:٥٣] وقول الله أيضاً: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:٦] وقول الله جل وعلا: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:١٠٢] وقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] وقول الله أيضاً: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠] وقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:٣١] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على سعة رحمة الله ومغفرته لعباده التائبين الأوابين المقلعين عن الذنوب، النادمين على ما سلف، الكارهين أن يعودوا إلى المعصية كما يكره المرء أن يقذف في النار.

وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يُدخِل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! قم فابعث بعث النار، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون كلهم في النار إلا واحد، فحينئذٍ يشيب المولود: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢] فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟ -من يكون ذلك الواحد بين الألف- فقال صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، فقال الناس: الله أكبر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة! والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة! والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة؛ فكبر الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم يومئذٍ في النار إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ليغفر الله عز وجل يوم القيامة مغفرةً لم تخطر على قلب بشر].

وفي السيرة في قصة سبي هوازن أن امرأة جاءت تسعى بين السبي، فوجدت وليداً لها فأخذته فضمته إلى صدرها ثم ألقمته ثديها، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر والصحابة ينظرون، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتظنون أن هذه تلقي بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها) وفي الحديث: (أن الله جل وعلا خلق مائة رحمة، أنزل رحمةً واحدة في الأرض فبها يتراحم الناس والوحش والسباع والطير والبهائم، وادخر تسعة وتسعين رحمةً لعباده يوم القيام).

فأقبلوا على الله يا عباد الله! وأبشروا بمغفرة الله إن صدقتم العدل والعهد والوعد مع الله، أقبلوا إلى الله وجددوا التوبة، واستغفروا الله كثيراً، أنيبوا إلى ربكم قبل أن يأتي يومٌ لا مرد له، بادروا إلى أوبة قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، عودوا إلى الله يا شباب الإسلام! يا شباباً سلف منه ما سلف، يا شباباً مضى منه ما مضى، يا شباباً فعل في سفره ما فعل، يا شباباً اجترح في خلوته ما اجترح، أبشر بقول الله في آياته: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:٣٨] فأنيبوا إلى الله، ربكم رحيم غني كريم، وهو غني عنكم يتودد إليكم، يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:٥٣] إن رحمة الله لا يستعصي عليها ذنب، ولا تعجزها معصية، فأين العبد التائب؟ وأين العبد الأواب؟ أين العبد البكاء على خطيئته؟ أين العبد الأواه المنيب؟ عودوا إلى الله يا شباب الإسلام! إن طريق الإسلام كله سعادة، وكله لذة وراحة وطمأنينة، إن الاستقامة والالتزام، والارتباط بالصالحين، وحسن العلاقة بالطيبين الصالحين لمن أسهل الأمور وأهونها، ومن أعظم الأسباب الميسرة للحياة السعيدة، خلافاً للفواحش وحياة الآثام وحياة الكبائر كلها، قلقٌ ونكد وحسرة.

إن أحلى عيشةٍ قضَّيتها ذهبت لذاتها والإثم حل