للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصبر على ثلاثة أوجه]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فهي وصية الله لكم، ولمن سلف قبلكم من الأمم يقول تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١] ويقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

معاشر المؤمنين: اعلموا أنه لا يخلو عبد مسلم من المصائب والابتلاء في هذه الدنيا، ولله في ذلك حكمة حيث يقول سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١] وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٥] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى لم يبتل عبده ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عليه عبودية في السراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب، والصبر: حبس النفس عن التسخط في المقدور، وحبس اللسان عن الشكوى لغير الله، وحبس الجوارح عن المعصية، واعلموا -يا عباد الله- أن الصبر ليس مقصوراًَ على المصائب والآلام فقط، بل هو وارد في غيرها من الأمور.

روي عن ابن عباس رضي الله أنه قال: [الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبرٌ على أداء فرائض الله، وصبرٌ عن محارم الله، وصبرٌ على المصيبة عند الصدمة الأولى] ويقول الله سبحانه وتعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:١٨٦] فمن ابتلي ببلية في نفسه أو ماله أو فقد حبيباً له ولداً كان أو قريباً، فلا دواء له إلا الصبر على ما أصابه، فإذا صبر المبتلى واسترجع في مصيبته ممتثلاً أمر الله في ذلك: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦] فقد هانت عليه البلوى وضاع أثرها، واستراح من همها وعذابها في الدنيا، وفاز بأحسن الجزاء عليه في الآخرة، وعزى نفسه وسلاها باليسر بعد العسر، والفرج بعد الشدة، متذكراً قول الله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:٥ - ٦].