للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشرك وأقسامه]

إخواني في الله: الإسلام أوامر ونواه, وباب النواهي واجتنابها أهم من باب الأوامر, باب الأوامر ذروة سنامها الجهاد في سبيل الله, وقد ذكرني الشيخ -بارك الله فيه, وزاده من علمه- وقد حذر, وأنذر, وبشر, وبين طريق الخلاص- أننا يجب أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وألسنتنا وبكل ما نستطيع.

وباب النواهي أعظمها الذنب الذي لا يغفره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو الشرك بالله, نسأل الله السلامة والعفو والعافية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:٤٨] والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول في الحديث القدسي: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك ولا أبالي, يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة) اللهم اجعلنا من الموحدين.

وفي علمنا جميعاً ولا أفيدكم أن الشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرك في الاعتقاد, كما تعتقده عباد الشمس والقمر والجن, حيث جعلوا إلهاً للخير وإلهاً للشر كما قال الشاعر:

جعلوا الضياء تخلق الخير وظلمة تخلق الشر

فمن اعتقد أن هناك خالقاً وفاعلاً غير الله تبارك وتعالى فهو كافر مشرك بالله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:٤٠] خلقك وحدك, هذا شرك, من ظن أن هناك خالقاً غير الله يقلب الليل والنهار, يسخر الشمس والقمر, يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته, ينزل الأمطار فهو كافر مشرك! نعم.

قد يتسرب إلى قلوب بعض الجهلة أن كثيراً من النصارى اخترعوا اختراعات كثيرة, وأنهم وأنهم ولكننا نقول له:

وكل اختراع جاء منهم فإنه من الله مخلوق فما خلقوا غيرا

ولكنه أوصافه قد تبدلت وخالق أصل خالق كل ما يطرا

وإن أنكروا من غيهم خلق ربنا جميع الذي فيهم وفي غيرهم أجرى

فقولوا لهم فيلخلقوا لي شعيرة ومنهم أصول الخلق أو يخلقوا برا

ومع كونهم بالطب فاقوا وخيلوا بتصوير أمر كونه ذلك الأمرا

لو اجتمعوا من أول الدهر جملة لما اخترعوا روحاً إذا صوروا ذرا

وقد صوروا عيناً لفاقد نورها وما جعلوا نوراًَ فما برحت عورا

والله تبارك وتعالى تحدى البشرية والناس جميعاً فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:٧٣] هذا الذباب الصغير الحقير الذي تراه يقع تيجان الملوك, وعمائم العظماء, ربنا ضرب به مثلاً: ((لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً)) [الحج:٧٣] نعم.

لو كان هناك مسرح طوله وعرضه آلافاً من الكيلومترات, وأرادوا أن يخلقوا ذباباً أين سيضعون الرأس في ذلك الجسم الصغير؟ أين سيضعون العين؟ أين سيضعون الشرايين التي ستنقل الدم؟ أين سيضعون حاسة السمع؟ أين سيضعون حاسة الدماغ؟ أين سيضعون الرئة والقلب والكليتين والمعدة, الذكر, الأنثى؟ هذه الذبابة الصغيرة لو رأيتها بالميكرسكوب الذي يضخمها خمسين مرة, لرأيت جميع ما فيها من الأعضاء, وهي مصغرة ولها يدان وأربعة أرجل, وهي تمسح في كل مرة عن عينها التي ليس فيه أجزاء, ولهذه الأرجل عظام ولها مفاصل ولها عروق ولها جلد, ولها مخ يسري فيها, فكيف سيضعون كل هذا ويصورون الذبابة الصغيرة في هذه الأعضاء؟! فعجزهم ربنا بهذا الجسم الصغير, بل قال لهم أعظم من ذلك, أنه حينما يكون بجانبك شيء من العسل أو اللبن أو الفاكهة أو الخبز يأتي الذباب فيأخذ منه قطعة صغيرة لا تراها العين, يأخذها ويهرب، فقال لهم سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:٧٣] فأنت تقدر أن تسحق هذه الذبابة بوسائل كثيرة, ولكن هل تقدر أن تأخذ ذلك الجزء الصغير الذي سلبه منك الذباب وترجعه إلى حيزك وتنتفع به؟! لا.

إنه بمجرد أخذه يضيع في جسمه ويصير مادة أخرى, فقال جل وعلا: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣].

فالذين لا يعرفون ربنا خسروا الدنيا والآخرة, لا تظن أن الله بعيد منك, ضع يدك على قلبك وانظر هذه النبضات, حياتك أنت متوقفة على جريان الدم والنفس, لو انقطع النفس لانتهيت, ولخرجت من دار الدنيا إلى دار الآخرة, ولو وقف قلبك لحظات من الذي يسير هذا القلب؟ هل هناك فيلسوف أو كافر أو ملحد أو أي مخلوق يقدر أن يقول: إنه يقدر أن يتحكم في نبضات قلبه؟ لا.

إذاً من الذي يسيره؟ اقرأ قول الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦] جل الله العظيم.

خلقنا بغير اختيارنا, وسنموت وسنخرج من الدنيا بغير اختيارنا, وسنقف بين يديه تبارك وتعالى في اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال بغير اختيارنا.

الشرك الثاني: شرك الوسيلة, وهو الذي وقع فيه أكثر المشركين, إنهم لا يقولون: إن الملائكة أو النبيين أو الصالحين يخلقون أو يرزقون ولكنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] هذا له مكانة عند الله, ونحن مذنبون لا نقدر أن نعبد الله, ولكننا نتقرب إلى هؤلاء ونعبدهم, وهم يشفعون لنا عند الله تبارك وتعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:٤٣ - ٤٤] وهؤلاء الذين عُبِدوا من كان منهم عاقلاً سيوقفه الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم الذي يقول الله فيه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:١١٦ - ١١٧] تبرأ منهم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:١٦٦].

وسيقيم الله الملائكة -لأن جماعة من العرب كانوا يعبدون الملائكة- ويقولون: بنات الله, فالله تبارك وتعالى في ذلك اليوم قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:٤٠ - ٤٢] وبقية المعبودات التي لا تعقل، يقول سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:٢٢ - ٢٤].

ويقول سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:٩٨ - ٩٩] ليبين الله تبارك وتعالى ذلتهم وخستهم، حتى الشمس والقمر يكوران في النار؛ لأنهما عُبِدا من دون الله تبارك وتعالى.

- الشرك الثالث: شرك الرياء, وهو الذي يجب أن نحذر منه, وشرك الرياء هو أن تتظاهر بالتقرب إلى الله تبارك وتعالى بالأعمال الصالحة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها, وأنت لا تريد التقرب بها إلى الله, بل تتقرب بها إلى الناس لتخدعهم إما ليؤمنوك, وإما ليعطوك مالاً, وإما لأنك تخافهم, فهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:٨ - ٩] قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:١٤٢].

وقد يكون كثير منهم يتكلم باسم الإسلام, ويدخل المساجد, ويصلي الجمعة, وليس مقصوده بالتقرب إلى الله, ولكن مقصده أن يسمع الخطيب ويتلقف الأخبار التي ينقلها إلى هنا وهناك ليوقع الفتنة ويفرق بين الأمة المحمدية, فهؤلاء المنافقون: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار