للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقارة الدنيا]

واللهِ لو كان الناس في الدنيا بعضُهم يغني لبعض شيئاً لبات مع الملوك في قبورهم خادماً، ولبات مع الأثرياء في قبورهم مالاًَ، ولبات مع الذين أمروا ونهوا معهم في قبورهم من يؤانسهم؛ لكن -والله- لو أُتي بأحب الخلق وقيل له: بِتْ مع هذا الحبيب أو الثري أو الأمير أو الوزير أو الحقير أو الملك أو الصغير أو الكبير، بِتْ معه في قبره ليلة، واللهِ لا يبيت معه، لا أبٌ ينفع ولا أم، وأشد من هذا أهوال يوم القيامة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٢٥ - ٣٧].

يا إخوان! يا أحباب! تفكروا في مصير الدنيا التي أنتم ونحن معكم ربما غفلنا، واغتررنا بها، وركنا إليها.

وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراًَ جَلل

انظر إلى أعظم شيء تتمناه، تفكر في خاتمته وآخرته.

وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراًَ جَلل

في منتهى: في آخر.

تفكر في الماء العذب الزلال الذي تتمنى شرابه، يتحول إلى بول لا يسرك سماعه.

انظر إلى اللقمة الهنية الشهية اللذيذة التي تأكلها، وتقبل عليها نَهِماً، تقلبها بلسانك، تمضغها بأسنانك! انظر منتهاها كيف يخرج من جوفك برازاًَ وغائطاً وعَذِرة تنصرف بوجهك وأنفك عنها.

انظر إلى الجمال الذي تشتاق إليه! كيف تعبث به السنون، ثم يبقى بعد ذلك شيئاً ذابلاً خاملاً لا نضرة فيه أبداً.

وبعد ذلك هذا البدن الذي تعلق به من تعلق يُدفن في التراب، فيدخل الدود مع العين ويخرج من الأذن، ويعبث باللسان الذي طالما تكلَّم وجادل بالباطل، ويدخل الدود في العين التي طالما سهرت أياماً وليالي على الأفلام والمسلسلات، ويخرج مع الأذن التي طالما سمعت آلات اللهو وأنواع الغناء، ويدخل في كل جوف وجزء وقطعة من شعرك وبدنك.

تأملوا هذه النهاية، وتدبروا هذا المصير! وإذا عرفنا ذلك أدركنا أن الدنيا حقيرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).

إذا تأملنا حقيقة الدنيا، فهي سجن المؤمنين؛ لأن ما ينتظرك -أيها المسلم- فيما عند الله من النعيم بالنسبة لما تراه الآن في الدنيا تعتبر دنياك حبساً، والجنة هي التي تنتقل إليها، والنعيم هو الذي تنتقل إليه، والحرية هي الدار التي تنتقل إليها.

وهذه الدنيا جنة الكافر، حتى وإن أطلق بصره، وأطلق فرجه، وأطلق لسانه، وأطلق سمعه في الحرام؛ لأن دنياه هذه بالنسبة لما ينتظره من العذاب في القبور، ومن العذاب في الآخرة، تعتبر بالنسبة لهم هذه جنةٌ؛ لأن ما ينتظره من بلاء ومصائب أعظم مما يخطر على البال.

في الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ما لا عين رأت من النعيم، ولا أذن سمعت عن النعيم، ولا خطر على قلب بشر من النعيم.

وفي الآخرة ما لا عين رأت من العذاب، ولا أذن سمعت من العذاب، ولا خطر على قلب بشر من العذاب.

فهل نستعد؟! هل نستجيب؟! هل نعود إلى الله؟! هذه الدنيا التي تعلقنا بها: اجتماعنا فيها نهايته الفراق.

وصحتنا فيها يكدرها الآلام والأمراض والأسقام.

والغنى فيها مَخُوف بألوان الفقر.

والعزة فيها كلما سمع الناس صولة دولة على دولة، وجولة باغٍ على آخرين خافت الناس خشية من تحوُّل الأوضاع من عز إلى ذل، ومن أمن إلى فزع، ومن طمأنينة إلى خوف.

إذاً: هذه الدنيا ليست للأبرار مقراً، حتى وليست للفجار مقراً؛ لكن الأبرار يمرون فيها إلى دار النعيم، والفجار يمرون بها إلى مقر الجحيم.

فيا أحبابنا إذا تأملنا ذلك عرفنا أن دنيانا ما هي إلا مزرعة، نزرع فيها الأعمال الصالحة، ونبذر غراس الأعمال النافعة، حتى نجني يوم القيامة.

ومن زرع البذور وما سقاها تأوَّه نادماً يوم الحصاد