للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدنيا دار عمل حلالها حساب وحرامها عقاب]

الحمد لله الواحد الأحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد نصبح ونمسي منك في عافية وأمن، وطمأنينة وستر، ونعيم ورخاء، وكل ذلك منك وحدك لا شريك لك، اللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، عليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.

معاشر المؤمنين: إننا نرى كثيراً من المسلمين في دعاء بالويل والثبور على واقعهم وما هم فيه، أهم يدعون بالويل والثبور على ما هم فيه من المعاصي؟ أم على ما هم فيه من الآثام؟ أم أنهم يتسخطون ويعترضون على قدر الله سبحانه وتعالى؟ وليس الأمر في ما يدعون عليه من أمر أو مصيبة شديدة، كلا والله، بل ترى الواحد حينما يرى مركباً فارهاً سب الدنيا ومن فيها لأن فلان بن فلان ركب هذا المركب وهو لم يركبه حتى الآن، وإذا مر بقصر شامخ سب هذه الدنيا وحظوظها لأنه لم ينل هذا القصر أو جزءاً منه، وإذا رأى صاحب مال أو ثراء تجده يحتقر نعمة الله عليه، وما درى ذلك المسكين أن الله جل وعلا قد ابتلى صاحب القصر والدابة والمركب والمال والثراء، وقد اختصه بنعمة لم يجدها صاحب تلك النعمة، قد تجد هذا الذي يتسخط ويشكو ويسب هذا الدهر -ولا يجوز سب الدهر- معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه وغده وسنين قادمة أيضاً، ومع ذلك فإنه لا يقنع ولا يرضى.

إن كثيراً ممن ترون من أرباب الأموال والثراء وغير ذلك، ليسوا في نعيم إلا من قيد ماله ونعمته في شكر الله، وخاف على نفسه وحاسبها من هذه الأموال التي دخلت عليه ديناراً ديناراً ودرهماً درهماً، وإلا فإن مثل أولئك لا شك مرتحل عن الدنيا، ومن بعده يأكلونها حلالاً وهو يحاسب عليها في الآخرة، حلالها حساب عليه، وحرامها عقاب عليه!! إذاً: أيها الإخوة: هل نغبط أحداً في هذه الدنيا لماله أو لجاهه أو لمنصبه، والله! لا يغبط أحد إلا في طاعته لله، قال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً- هل ادخره؟ هل جَمَّعه في رصيده؟ هل اشتغل به من هنا وهناك؟ لا- فأنفقه في سبيل الله هكذا وهكذا) تلك والله! هي الغبطة، ومن تمنى المال من أجل أن ينفقه في سبيل الله كتب الله له أجر نيته تلك.

إذاً: فاحمدوا الله على نعم تتقلبون فيها يا عباد الله! احمدوا الله على نعم تتقلبون فيها، وغيركم إما في فقر وذل، أو شتات وتفرق، وغيركم من أرباب المال والثراء يرون نعيماً لا يتمتعون به، إن كثيراً تمتد أمامه المائدة الطويلة قد حجب عن هذا الطعام، ومنع من هذا الطعام، ونهي عن هذا الطعام، فلا يأكل إلا زاداً قليلاً يقدم أمامه، وفقراء الناس يأكلون من كل شيء أمامهم وهو لا يأكل إلا هذا القليل القليل مما أمامه، أترون هذا نعيماً؟ تباً لدنيا هذا مآلها، يجمعها ويكد وينصب في جمعها ويحاسب عليها، ومع ذلك لا يهنأ بقليل من العيش فيها، وترى الآخر قد انشغل بدنياه حتى وصل به الدهر من عمر زمانه عتياً، ثم أصبح مريضاً ضعيفاً لا يستطيع أن يتمتع بشيء، إن أراد النكاح فهو عاجز، وإن أراد الأكل فقد ذهبت لذة الشباب التي تجعل كل شيء هنيئاً مريئاً.

إذاً: فعلى أي شيء نغبط الناس في دنياهم؟ على أي شيء نحسد الناس في مراتبهم، أو مراكبهم أو قصورهم، أو قليلهم أو كثيرهم؟ إن الغبطة والله في طاعة الله، إن الغبطة يوم أن ترى شاباً صغيراً يحفظ كتاب الله، أو ترى رجلاً سباقاً إلى المساجد، أو ترى شاباً داعيةً إلى الله قد أمضى وأفنى وقته وشبابه في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما سوى ذلك فليس بحقيق أن يغتبط الناس فيه أو أن يتحاسدوا، لكن أيها الإخوة! كل ما نراه من هذا الاعتراض والسخط على هذه الدنيا وأهلها ومن فيها، إنما هو بسبب عدم القناعة، وإن عدم القناعة إذا بلغ بصاحبه أمراً، فإنه قد يقوده إلى خطر عظيم وهو الاعتراض على ما قدر الله سبحانه وتعالى، قد يعترض الإنسان بطول وكثرة تسخطه على مراتب الناس وحظوظهم ونصيبهم في الدنيا عياذاً بالله من ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمسى آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ما الفرق بين الأغنياء والفقراء؟ ما الفرق بين الرفعاء والوضعاء؟ ألهم ثلاثة بطون وللفقير بطن واحد؟ ذلك له بطن واحد وهذا كذلك، ألهم ثلاثة أعين وهذا له عينان؟ كلا والله، كلهم يشتركون في ما خلق الله لهم، إذاً فلا دنياً تستحق أن يغتبط الناس بها!! واعلموا أن كل إنسان مهما صغر أو عظم أو كبر فإنه لابد أن يكون في مصيبة من دهره، وهذه الدنيا أيها الإخوة! إذا كان الإنسان في نعيم وهو على حال غفلة، وبُعدٍ عن طاعة الله فليخش الانقلاب وتغير الأحوال، كما يقول القائل:

أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الله يأتي بعدها بوصال

وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصلٍ معقباً بزوال

وإن الذين ترونهم في هذا الثراء الفاحش والنعيم على بعدٍ وغفلةٍ عن طاعة الله لعلى خطر عظيم، بل إنهم يعيشون في داخل قلوبهم حسرات وأنَّات مما هم فيه، ويصدق عليهم قول القائل:

من ذا الذي قد نال راحة فكره في عسره من عمره أو يسره

يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

فيظل هذا ساخطاً في قله ويظل هذا تاعباً في كثره

عمَّ البلا ولكل شمل فرقةٌ يرمي بها في يومه أو شهره

والجن مثل الإنس يجري فيهمُ حكم القضاء بحلوه وبمره

أوما ترى الرجل العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره

فيسره خيرٌ وفي أعقابه همٌ تضيق به جوانب صدره

وأخو التجارة حائرٌ متفكرٌ مما يلاقي من خسارة سعره

وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينةٌ في صدره

وترى القرين مضمراً لقرينه حسداً وحقداً في غناه وفقره

ولرب طالب راحةٍ في نومه جاءته أحلامٌ فهام بأمره

والطفل من بطن أمه يخرج إلى غصص الفطام تروعه في صغره

ولقد حسست الطير في أوكارها فوجدت منها ما يصاد بوكره

والوحش يأتيه الردى في بره والحوت يأتي حتفه في بحره

ولربما تأتي السباع لميتٍ فاستخرجته من قرارة قبره

كيف التذاذ أخي الحياة بعيشه ما زال وهو مروع في أمره

تالله لو عاش الفتى في أهله ألفاً من الأعوام مالك أمره

متلذذاً معهم بكل لذيذةٍ متنعماً بالعيش مدة عمره

لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره

ما كان ذلك كله مما يفي بنزول أول ليلةٍ في قبره

كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره

فاقنعوا يا عباد الله! واشكروا الله على نعم أنتم فيها: أعيناً تبصرون بها، وآذاناً تسمعون بها، وأيدي تبطشون بها، وأرجلاً تمشون بها، ونعماً عظيمة لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى.

أنتم والله في خير عظيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:١٨] فاحمدوا الله تعالى على ذلك، وقيدوا النعم بشكر الله، إياكم واللهو، إياكم والغفلة عن ذكر الله، إن كثيراً من المسلمين قد ابتلوا بالغفلة فجرتهم هذه الغفلة إلى السخط وعدم القناعة، ترى الواحد منهم منذ أن يصبح إلى أن يمسي ومزامير الشيطان في داره، لا يذكر الله في بيته إلا قليلاً، ولا تسمع آية من آيات الله في بيته تتلى، وتراه منشغلاً بهذه الأمور، ومنشغلاً بهذه الدنيا وحطامها وكل ما فيها.

إن حياة تدوم على المعاصي والآثام الموت خير لصاحبها من الحياة ومضاعفة السيئات والآثام.

أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالهداية والثبات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣] ويقول الله جل وعلا: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:١ - ٨].

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً واختلاطاً مع الرجال في تعليمهم ووظائفهم، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، اللهم عجل هلاكه، وأرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأسوأ من ذلك