للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عظم قدر المسئولية]

الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون، الحمد لله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].

أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسأل الله جل وعلا في مستهل هذا اللقاء أن يكتب خطواتكم وأن يجعلها في موازين أعمالكم، فوالله لأنا أعلم بنفسي من الذين اجتمعوا إلي، وكما قال سفيان رحمه الله:

خلت الديار فساد غير مسود ومن الشقاء تفرد بالسؤدد

والله لو أن على الساحة ساداتها ورجالها؛ لما اجتمع الإخوة في هذا المقام كما ترون، ولكنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

أيها الأحبة حديثنا اليوم عن المسئولية.

الشباب والمسئولية موضوع ذو شجون، متعدد المباحث والمسائل، له جوانب شتى.

المسئول هو الذي يطرح عليه السؤال، وينتظر منه الجواب، ويجازى ويعاتب على تفريطه، ويلام على إهماله وتركه ثغرته ومكانه.

وحينما نتكلم عن المسئولية فالحديث أولاً وبادئ ذي بدء يوجه إلى أجدر الذين يحملونها ويقومون بها، وهم الشباب:

شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا

الشباب الذي كان فيهم من قاد الجيش وهو ابن سبع عشرة سنة، والذين فيهم من تولى مسئولية الأمة، والذين انتصبوا للتعليم والإفتاء، الشباب الذين ضربوا أروع الأمثلة في صلاح السيرة والسريرة، واستقامة الظاهر والباطن والسر والعلانية.

واسمحوا لي أن ألج إلى موضوعنا عبر بوابة شريفة، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه واتفق عليه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).

أحبابنا: الأصل أن الإنسان مسئول ومحاسب ومجازى، وأن البعث بعد الموت، وأن نشر الصحف ونصب الموازين والجنة والنار ما هي إلا نتيجة هذه المسئولية، وجزاء من تحمل أمانة فقام بها، فجزاه الله الجزاء الأوفى وضاعف له أعماله، والنار لمن أعرض عن دين الله، وتكبر عن طاعة الله، وجعل كتاب الله وراءه ظهرياً {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].

حتى المسئولية في الذرات وفي الخردلة يقول تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] فمسئولية الذرة والخردلة ترى نتيجتها في موازين الحسنات أو في كفة السيئات، وتعالى الله جل وعلا أن يخلق خلقاً ثم يتركهم هملاً، أو يدعهم سداً {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦] لا يليق بالله، وينزه الله، ويسبح الله، ويقدس الله أن يخلق الخلق ثم يدعهم هملاً {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦] يتنزه الله عن ذلك {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:١١٦ - ١١٧].

ويقول جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:٣٦ - ٣٩].

أبعد هذا التطور في مراحل الخلق والتكوين، وأن يخلق على أحسن صورة وأجمل هيئة، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤] ويكرم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:٧٠].

أفيكون هذا كله وليس بعده جزاء أو حساب أو لوم أو عتاب؟ لا والله، بل في آيات أخرى -والآيات في هذا المقام كثيرة- يبين الله جل وعلا أن الإنسان يسأل ويحاسب، فليس الصحيح يحمل من المسئولية كما يتحمل السقيم، وليس الفقير يتحمل من المسئولية كما يتحمل الغني، وليس صاحب الجاه والسلطان يتحمل من المسئولية كما يتحمل من لا جاه له ولا سلطان، وليس القوي أو من ولاه الله أمراً يتحمل من المسئولية كمن لم يتول أمراً، شتان بين هذا وهذا، فكلٌ يحاسب ويسأل ويعاتب بقدر ما أوتي، وبقدر ما بسط الله له، وسخر له بين يديه، لينظر في فعله وسعيه {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:٣٩ - ٤١].