للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفات مهمة مع حسن الخلق]

أيها الأحبة! حسبنا في هذا الوقت الذي مضى ما ذكرناه من هذه الكنوز، وثمت كنوزٌ كثيرة وعظيمة ومن أجلها وأهمها: حسن الخلق:

أبني إن البر شيءٌ هين وجه طليقٌ وكلامٌ لين

وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافا) وقال صلى الله عليه وسلم: (وإن المسلم ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم لا يفطر والقائم لا يفتر).

ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

إنني أوصي جميع إخواني وأخواتي، وأوصي الشباب الطيبين خاصة ألا يجعلوا في التزامهم ثلمة يمقتها من رآهم، أو ينتقدهم بها من قابلهم؛ إما بغلظة، أو جفاء، أو إغضاءٍ، أو انصرافٍ عن الخلق بهذه الابتسامة (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) ماذا تخسر أن يكتب الله لك صدقة، ماذا تخسر أن تكسب الناس، وأن تؤثر عليهم بحسب الخلق بخفض الجناح بلين الجانب بالتواضع، ماذا تخسر يا أخي الكريم حين تبدؤهم بالسلام؟ وبالمناسبة فإن من إخواننا من رأى رجلاً عليه معصية لا يعطيه من الخلق الحسن شيئاً، وهذه من المفاهيم الخاطئة، أنت تمر على رجل يدخن أيضيرك أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبابتسامة وبوجه طليق، وتحنو عليه وتدنو إليه، وتقول: يا أيها الحبيب! إن هذا لا يرضي الله ولا يرضي رسوله، وإن هذا يضرك، ونصيحتي لك محبة وغيرة وإشفاقاً ألا تفعل هذا.

تجد بعض الإخوان -وفقهم الله ونفع بهم- بمجرد أن يرى على شخصٍ منكراً من المنكرات فإن وقوع هذا الشخص في المنكر كفيل بإسقاط حقوقه، فلا يبدأ بالسلام ولا يرد إذا سلم، ولا يشمت إذا عطس، ولا يعاد إذا مرض، ولا يصلى عليه إذا مات، ولا ينصح إذا استنصح، ولا يدل إذا استرشد، هذا ليس بصحيح يا أخي الكريم، بل إننا حينما نقابل هؤلاء بحسن الخلق، وربما تجد من الناس على ما فيه من معصية ظاهرة قد سلم من ذنبٍ قد يكون في أو فيك وهو خطير.

فيا أخي الكريم لا تتصور أن ما تراه من كمال الظاهر هو الدليل على الكمال في كل شيء، ولا تتصور أن ما تراه من النقص في الظاهر أو شيءٍ من الظاهر هو الدليل على النقص في كل شيء، نعم جنس الكمال في الظاهر صلاح الظاهر إشارة وقرينة على صلاح الباطن بإذن الله، وربما كان فساد الظاهر قرينة أو إشارة على تقصيرٍ في الباطن أعظم، لكن هذا ليس على إطلاقه، وإن من الكنوز الضائعة المتعلقة بمعاملة الخلق هي حسن الخلق وإنك لتؤجر عليها أجراً عظيما، يا أخي الحبيب! كما من الله عليك بالالتزام والاستقامة، واتباع السنة، وحب الخير، والدعوة والإرشاد إليه، وحب الدعاة إليه، احرص على أن تكون على درجة طيبة من حسن الخلق.

أما أنا فوالله إذا قابلني شابٌ لا أرى فيه حسن الخلق يمرضني يوماً أو يومين، أمرض مرضاً شديداً حينما أقابل إنساناً بابتسامة فيكفهر، أو أبدؤه بالسلام فلا يرد، أو تعطيه معاملة حسنة ثم لا تجد إلا جماداً لا تتحرك فيه مشاعر، لماذا يا أخي الكريم تصد بوجهك عني، ما أنا فحمة ولا أنت فرقد، يعني: ما بالناس فحم وأنت النجم، فحسن الخلق أمر مطلوب جداً، وأكرر ما أقول لكم أنني يؤذيني إذا رأيت من إنسان تعطيه من حسن الخلق ما تعطيه ثم ينصرف عنك بكل فظاظة وجفاء، وهذا لا يجوز ولا ينبغي: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الحجر:٨٨] {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:٥٤] {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:٢٩].

يا أحبابنا لماذا لا نتصف بهذه الصفة؟ لماذا نجعل الخلاف في مسائل فرعية، الخلاف في مسائل فقهية، الخلاف حول قضايا معاصرة، شخص اختلفت أنت وإياه في أزمة الخليج، انتهى، فأصبح لا يسلم عليك، ولا يبتسم في وجهك، ولا يقابلك كأن أزمة الخليج هي فتنة القول بخلق القرآن؟ وهل نلزم أن نجعل عقولنا أجهزة نسخ أفكار بدون أن نحرر أو نغير أو نناقش؟ هنا قضايا متفق عليها، فمالي ولا لك فيها رأي ولا اجتهاد مع النص، وهنا مسائل محل اجتهاد؛ فما اجتهادك بأولى من اجتهادي، لكن إذا اختلفت معي فإن ذلك لا يبيح لي أن أغتابك، ولا يجيز لي أن أتناول عرضك، ولا يسمح لي أن أنم فيك، ولا يجيز لي أن أسقط حقوقك، أو أن أسكت عن الذب عن عرضك إذا تُكِّلم فيك وأنا جالس، وكذلك العكس بالنسبة لي، لأن من إخواننا من ضيع الكنز العظيم كنز الخلق الحسن بسبب الاختلاف، يقول أحدهم: فلان لا يهمك تراه يرى الرأي الفلاني في القضية الفلانية، وهل هذه القضية الفلانية هي تحويل القبلة، لا يسع أحد الانصراف عنه، مسألة ربما ليست ربما من الشرع في شيء وإنما محل اجتهاد فكري أو سياسي أو اقتصادي أو إعلامي، وللنظر فيها مجال، وللاجتهاد فيها مكان ومرتع، لكن أبداً، تعال ووافقني على آرائي وكن نسخة طبق الأصل، وببغاء قلدني وتابعني فيما أقول وإلا فلست من جماعتي ولا من أحبابي ولا أعترف بك وأنت من هؤلاء ولست من هؤلاء.

متى خلقنا هكذا؟ العقول التي خلقها الله عز وجل عظيمة دفاقة كالبحار؛ آتي وأضع عقلي في قربة من أجل أتبعك في هذه المسألة، أنا أخالفك في هذه المسألة؛ لكن مخالفتي لك لا تجعلني أسكت إذا اغتيب عرضك في مجلس، ومخالفتي لك لا تسمح بأن أغتابك أو أتكلم فيك أو أنم عنك، وكذلك العكس لك علي هذه الحقوق ولي عليك مثل هذه الحقوق، فلا نضيع حسن الخلق بمثل هذه الخلافات الفرعية في المسائل الفكرية والمسائل الاجتهادية.

أقول ما تسمعون أيها الأحبة، وأسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه، إنما نؤكد ونوصي ونشدد ونعيد ونزيد أن الأزمة أزمة العمل، ما أظن أنني في هذه المحاضرة قد جئتكم بجديدٍ لا تعرفونه، بل كل ما قلت أنتم أدرى به مني، وحالي معكم كقول الشاعر:

فقل لمن يدعي في العلم معرفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياء

ما جئتكم بجديد، لكن جئنا بذكرى لأنفسنا ولكم حتى نعلم ونطبق والله عز وجل يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا} [النساء:٦٦] إذا نحن طبقنا ما نسمع في خطب الجمعة وفي المحاضرات وفي الندوات، وفي إذاعات القرآن الكريم، وفي المناسبات النافعة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:٦٦ - ٦٨] أربع ثمار وفوائد عظيمة تكفل الله بها لمن جعل نيته فيما يسمع أن يعمل ويطبق، أما السماع للثقافة، السماع للمناظرة، السماع للنقد، السماع للتشفي، السماع للتمحل والتأويل، السماع لأغراض أخرى، هذا يضر صاحبه ولا ينفعه بأي حالٍ من الأحوال.

أيها الأحبة ختاماً: أود أن أؤكد على ضرورة الالتفات لإخواننا في البوسنة والهرسك، فلا يخفاكم معاناتهم وحاجتهم إلى الدعم والبذل والمساعدة، ولعل الشيخ قد جعل على الباب الشمالي من يجمع التبرعات التي تجود بها أنفسكم وستصرف للهيئة العليا التي بدورها على أتم حرصٍ وعناية فيما أشهد وأعلم واطلعت على ذلك لإيصالها لإخواننا المحتاجين في البوسنة، فالله الله يا إخواني {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:١٤ - ١٥] صدقة وذكر وعبادة، نسأل الله أن يجعلها كفارة لذنوبنا ورفعة لدرجاتنا ورحمة لنا ولوالدينا.

اللهم أعز الإسلام والمسلم ودمر أعداء الدين، اللهم اجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم ثبتنا على دينك واستعملنا في طاعتك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.