للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة انشراح الصدر]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء أن يكتب لنا ولكم جزيل الأجر وعظيم الثواب على ما نرجوه ونحتسبه عند الله عز وجل، من ستر العيوب وغفران الذنوب، ورفعة الدرجات ومضاعفة الحسنات.

أحبتنا في الله! كلمة أرددها دائماً في مستهل كل محاضرة، وهي أن كل من شغل وقته برياض الجنة، وحِلق الذكر، ومهابط الرحمة، ومنازل الملائكة؛ فلن يندم أبداً على مجيئه وجلوسه، وحسبه أنه في عبادة ينتظر بعدها عبادة، وفي مجلس تغشى أهله السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله عز وجل فيمن عنده، فأسألكم بالله هل فينا من سيندم على مجلسه هذا بين يدي الله يوم القيامة؟

الجواب

لا.

وإنما الندم كل الندم يوم أن نتحسر على ساعات وأوقات ضاعت لم تكن في مرضاة الله، أو لم تكن في مباح يُعين على طاعة الله سبحانه وتعالى.

وإني لشاكر ومقدر دعوة صاحب الفضيلة الشيخ صالح بن غالب السدلان متع الله به ونفع بعلمه، لافتتاح هذا الموسم بهذه المحاضرة، التي أجدني محتاجاً إلى موضوعها، وربما بعض أحبابي بقدر الحاجة تلك.

أحبتنا في الله: أسباب انشراح الصدر كثيرة، ولماذا الحديث عن انشراح الصدر؟ لأنه منّة عظيمة امتن الله بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:١ - ٤].

واهتمامٌ بقضية انشراح الصدر لأنها منة وفضل دعوة دعا بها موسى عليه السلام لما حُمّل قولاً ثقيلاً، وتبعة جسيمة ليدعو ظالماً غاشماً طاغية جباراً يدعي الألوهية، فلما أدرك عِظم هذا التكليف العظيم، سأل ربه أن يشرح صدره، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:٢٥ - ٢٦].

واهتمام بقضية شرح الصدر؛ لأنها منة وفضل يختص الله به من يشاء من عباده: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:٢٢] ولأن شرح الصدر هداية من الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:١٢٥].

أحبتنا في الله! شرح الصدر: سلامته من الغل والحسد والحقد والكبر، وما أكثر الذين يدّعون لأنفسهم انشراح صدورهم، لكن صدورهم لما تزل فيها علائق من الحقد أو الحسد أو الكبر أو الإحن والضغائن، وشرح الصدر اتساع للمعرفة والإيمان، وشرح الصدر تنوره، ومعرفته للحق وثباته عليه، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أكثر على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في شأن المرتدين، يقول: [فعلمت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للحق] لما رأى من وضوح الحق بين عيني أبي بكر وثباته عليه.

وشرح الصدر: طمأنينة النفس، وكرم في الخلق، وتواضع في المعاملة، وإقبال على الآخرة، وقناعة في الدنيا، ورضاً لا سخط معه، وشكر لا كفر فيه.

ولا شك أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم هو شرح حسي ومعنوي، قد اشتمل على صبره في الدعوة، وصفحه وعفوه عن أعدائه، ومقابلته الإساءة * بالإحسان، وثباته على الدين.

ولذا كان كما قلت أو أسلفت كان شرح الصدر مما دعا به موسى يوم أن أُمر بتبليغ الطاغية فرعون: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:٢٤ - ٣١].

فذكر هنا من دواعي العون على أداء الرسالة أربعة عوامل بدأها بشرح الصدر، ثم تيسير الأمر، وهذان عاملان ذاتيان، ثم الوسيلة بينه وبين فرعون وهو اللسان في الإقناع وبيان الحجة، وأن تُحل عقد لسانه ليفقه قوله، ثم العامل المادي الذي يحتاج إليه ممثلاً في المؤازرة: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:٢٩ - ٣١].

أيها الأحبة! وإذا تأملنا هذه الآية وجدنا أنه قد قُدم فيها شرح الصدر على هذا كله لأهميته؛ لأن من شرح الله صدره للحق قابل كل الصعوبات ورآها يسيرة، ولم يبال بأي عدو واجهه مهما كان عدده وعتاده، ولذا قابل موسى عليه السلام ما جاء به فرعون من السحر والسحرة بكل ثبات وطمأنينة ويقين بما شرح الله به صدره، ومن هنا ندرك أهمية انشراح الصدر.