للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل شهر رمضان]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

معاشر المؤمنين: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣].

وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها صيام هذا الشهر الكريم، فصومه ركن من أركان الدين.

أيها الأحبة: لم تبق إلا أيام قليلة، ويهل علينا بهلاله، ونسعد بإطلاله، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن أُكرم ببلوغه والعمل فيه، والتمام له والقبول، فذلك شهر عظيم، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيها أبواب النيران، وتسلسل الشياطين، ذلك شهر كله مدرسة عظيمة، منذ تربت فيه الأجيال بأمر الله عز وجل بصيامه إلى يومنا الحاضر، بل وإلى أن تقوم الساعة.

ولكن الناس في هذا الزمان بين مد وجزر في استفادتهم من هذا الشهر العظيم، والأمر في استفادة الناس ليس إلى الشهر، فالشهر يبلغ بقدر الله عز وجل، ويحل بأمر الله عز وجل، ولكن الأمر إلى الناس، فمن زكى نفسه وجاهدها؛ فقد أفاد من هذا الشهر خيراً عظيماً، ومن دساها وأتبعها هواها، وتمنى على الله الأماني؛ فقد خسر خسراناً عظيماً، إذاً فالأمر فينا وليس في الشهر.

من كتب الله له أن يدرك هذا الشهر؛ فهو مدركه لا محالة، ولكن الذين يدركون الشهر تتباين نتائجهم في ختامه، فمنهم الرابح فيه، ومنهم الناجح، ومنهم الفائز فوزاً عظيماً، ومنهم الخاسر خسراناً مبيناً.

إنه شهر الصبر واليقين، وبذلك تُنال الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤] ففيه عبادة الصوم، وهي عبادة جليلة، يقول الله عز وجل فيها في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) رواه البخاري ومسلم.

أيها الأحبة: إن إدراك هذا الشهر وصيامه سبب لتكفير الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة يستجن بها العبد من النار) أخرجه الإمام أحمد.

فمن كان مذنباً أو مفرطاً أو مضيعاً، فأدرك هذا الشهر، فيا هنيئاً له إذ بلغ شهراً يكون له جُنَّة ووقاية من عذاب الله، ويكون سبباً في تكفير ذنوبه، ومباعدة وجهه عن النار سبعين خريفاً، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) وهو حسنة من الحسنات، بل من أعظم الحسنات وأشرفها وأزكاها، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤] أما الذين لا يتذكرون، أما الغافلون، أما اللاهون والجاهلون، أما الضائعون والسابحون في غفلاتهم ولهوهم، فليس لهم في ذلك حظ من الذكرى.

والله إنها لفرحة عظيمة، أن يهل علينا شهر يكون لنا جُنَّة من النار، وتكفر فيه ذنوبنا، وترفع فيه درجاتنا، وتفتح لنا فيه أبواب الجنة، وتغلق دوننا أبواب النيران، وتصفد وتسلسل الشياطين التي طالما تسلطت علينا وأغرتنا بالمعاصي وأغرت المعاصي بنا.

يقول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة) رواه البخاري ومسلم.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم.

فمن ودع الشهر الماضي في العام الماضي، ثم استقبل هذا الشهر في هذا العام، وقد سلم من الكبائر، فهي بشارة له وهدية وتحية، نقول له: قد كفرت ذنوبك كلها، ومحيت سيئاتك وأنت تستقبل صفحة جديدة بيضاء نقية.

إن من صام هذا الشهر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، فالصالحون في هذه الأمة يحرصون على الخير، وكانوا أحرص الناس عليه، لذا تراهم قبل دخول الشهر يراجعون أنفسهم قبل أن يراجعوا خزائن الطعام، ويستعدون بأرواحهم قبل أن يستعدوا لأصناف المآكل والمشارب، ويزكون أفئدتهم قبل أن يقلبوا النظر فيما يأكلون ويشربون.

إن من أقبل عليه هذا الشهر فقدم عليه وهو في اشتياق ولهفة وحنين إليه، حنين إلى الصوم حنين إلى القيام حنين إلى التهجد حنين إلى الركوع والسجود والوقوف بين يدي الله عز وجل رجاءً ورغبة، عسى أن يغفر الله لنا ولهم كل ما سلف من الذنوب، وعسى أن نكون في عداد العتقاء من النار، فأولئك تراهم يفرحون فرحاً عظيماً لا يقارن بفرحهم سواءً كان بزوجة حسناء، أو بولد يولد، أو بمال يوهب، أو بشيء من حطام الدنيا.