[إصلاح النفس نقطة البداية]
هذه أيها الإخوة! مقدمات من أين نبدأ، هذه مقدماتنا والبداية فيك أنت.
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تبصر
وتحسب أنك جسمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر
البداية منك أنت، إذا زالت الأوهام وتحررت منها، ومزقت الخيوط العنكبوتية، وما نسجت دودة القز على جسمك وثوبك وعن يمينك وعن يسارك من هذه الأوهام التي كبلتك واستطعت أن تمسح الزجاج أمام عينيك، وأن تزيل بحرارة اليقين هذا الضباب المتكاثف في طريقك حينئذٍ ستبدأ.
والبداية كما قلت فيك أنت، فإذا بدأت بحق فاعلم أن الله جل وعلا قد قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:١٩٥] سواء كان الداعية في هذه الظروف أو في غيرها رجلاً أو امرأة، ذكراً كان أم أنثى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:١٩٥].
أيها الإخوة: نقول: فلان رجل لا يضيع المعروف عنده، فلان رجلٌ بذول معطاء، كريم سخي، حينما تعامله بالهدية يردها بأضعافها، أفتظنونه أكرم من رب العالمين؟ جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، الله جل وعلا أكرم الأكرمين، ومن كرمه أن سيئاتك لا يكتبها عليك إذا هممت بها ولم تفعلها، ومن كرمه أن نياتك بالحسنات تكتب لك وفعلك بالحسنات يضاعف لك إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٦١] أكرم الأكرمين: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:٧] الذرة لا تضيع عند الله من الخير، فلماذا تتردد في البداية؟ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] إذاً فلا تخش شيئاً، بعض الناس يقول: من الذي ينظر؟ من الذي يجازي؟ من الذي يكافئ؟ أعملنا؟ وكما قلنا ليس من شرطك أن تهتدي البشرية على يدك، أو أن ترفع برقيات الشكر والثناء لك أنها هداها الله على يديك، فلست أفضل من الأنبياء الذين يأتون يوم القيامة وأحدهم معه الرُهيط، وآخر معه رجل ورجلان، وآخر ليس معه أحد.
ثم أيضاً الله جل وعلا بيَّن لنا وظيفة الداعية: إنما أنت منذر، ليست النتيجة عليك: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:٧] {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:١٥] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:٦٧] واستمر حتى تجد النتيجة؟ لا.
ما طلبت منك ذلك لكن بلغ، إنما عليك البلاغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧].
فيا أخي المسلم: لست بحاجةٍ أن تضمن النتائج، أو أن تعلق عملك على تكوين النتائج.
نعم.
إذا كان موقف من المواقف من خلال حكمتك في الدعوة، أو حكمة من تستشيرهم في الدعوة إلى الله ظهر لك أن المنكر الذي ستغيره يفضي إلى منكرٍ أكبر فقف، أو يفضي إلى منكرٍ يساويه فتوقف، ولكن إذا كنت تظن أن سعيك يقلل المنكر، ففي هذا خيرٌ عظيم، وهذه مشكلة نواجهها أحياناً مع بعض إخواننا ولنكن صرحاء، حينما تقوم بعمل معين في مجال معين، وأنت تعرف أن هذا المجال الذي ستدخل فيه: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:٢١٩] المسألة فيها أخذ وعطاء، مختلطة، فيها مصالح وفيها مفاسد، إذا غلب على ظنك أن هذا أفضل مكانٍ تعمل فيه وتنتج فيه، وتقدم نتائج إيجابية فيه، وسيكون حصيلة عملك التقليل من المنكر، فنقول: هذا خيرٌ عظيم، لا نظن أن المنكر بمجرد أدنى سعي منك سينتهي إلى غير رجعة، أو سيزول إلى غير بدل، لا.
قد يزول المنكر، لكن إلى بدلٍ أضعف منه، فيأتي آخر يتدخل في الوضع، فيزول المنكر إلى ما هو أضعف منه حتى يصبح المنكر شيئاً قليلاً لا يكاد يرى بل يضمحل وينتهي إلى غير رجعة.
فلابد أن نتصور هذه المسائل لكي لا نضعف حينما نريد أن نعمل، وكثير من الناس يقول: أغلقت السبل والأبواب، ما عاد هناك أمل، العلمانية تفرق، الفساد ينتشر، الواقع إلى جهنم وساءت مصيراً، الناس قد ضلوا ضلالاً بعيداً، وتجده مسكيناً كما في الحديث: (من قال هلك الناس فهو أهلَكَهم أو أهلَكُهم) فيصبح لا يرى إلا ظلاماً، ولا يرى إلا شراً، ولا يرى في الناس إلا جانب الشر، وهذه مصيبة نفسية عند بعض إخواننا أهل الخير، أن تجد الإنسان حينما يرى رجلاً في يده السيجارة وهو متوجه إلى المسجد، ينظر إلى السيجارة ولا ينظر إلى ذهابه إلى المسجد، لماذا لا تنظر فقط إلا بالعين التي تبصر المعصية؟ ولماذا لا تستعمل العين الأخرى فتنظر إلى جانب الطاعة؟ ولماذا لا تجتهد وتحول عينيك إلى جانب الطاعة، فتتسلط على هذا الجانب بالموعظة، بالنصيحة، بالكلمة، بالابتسامة، باللباقة، بالرفق، بلين الجانب، بالتواضع، بخفض الجناح، بما شئت حتى تستطيع أن تقضي على المنكر الذي بيدك؟ أما أن تعيش ناظراً إلى معاصيهم فلا، والله إني أعجب أحياناً، وأمل -لا أكتمكم- من مجالسة بعض إخواني، تجد إذا جلست معه لا يُسمعك إلا ما يحطم نفسيتك، لا يُسمعك إلا ما يجعلك تتحطم، لا.
تعيش في جو هذا كذا، هذا صار كذا، اختلاط، فساد، منكر، نشرة، مجلة، مقالة إلخ، فتجد أنك أينما التفت يميناً يساراً، فوق تحت، أمام خلف، تجد أنك محاط بالمعاصي ويخيل إليك الشيطان.
لماذا العبث؟ ولماذا مكانك سر؟ ولماذا الجنون هذا؟ انتهت المسألة فالمنكر استحوذ على الوضع من جميع جهاته، ما عاد هناك حاجة لأن تعمل، ما عاد بيدك شيء؟ وهذا هو ما يريده الشيطان؛ أن يجعلك تقنط، وتيأس من رحمة ومن روح الله، ثم لا تبدأ تقدم شيئاً، وينعكس هذا عليك؛ ترى منكراً: ما رأيت إلا المنكر هذا، يحلو لك: رأينا أكبر، وترى منكراً آخر: رأينا ما هو أكبر، وترى مصيبة أخرى: يا شيخ! سيذبحنا العلمانيون، ما عاد هناك أمل لأن تصلح الأحوال وهلم جراً، لا والله.
إن وقفة الشاب الغيور المناصح المخلص، الذي يغار على حرمات الله بالاتصال بالعلماء، بطلبة العلم، بالآمرين بالمعروف، كتابة مقالة، كتابة برقية، مناصحة مسئول، التردد في هذا الأمر، والله إنه يشغلهم.
ثم يا إخواني! {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:١٠٤] والله إن أهل الباطل، والله إن العلمانيين يتقلبون أسىً ومضضاً ومرضاً لا تشعرون به، حدثني أحد الإخوة وكان في مكانٍ بالقرب من واحدٍ من العلمانيين الذين أخزاهم الله وفضحهم، فقال: إنه لما علم بكذا وكذا سقط مريضاً أياماً عديدة، الله أكبر! والله أيها الإخوة! إن لدعائكم على أهل الباطل في الليل لآيات بينات واضحات، وإن لسعيكم في مقارعة المنكر وأهله لأثراً بالغاً عظيماً، الله جل وعلا يبتليكم وهو بأمره بكلمة (كن) يحول الأمور رأساً على عقب، ولكن حتى ينظر هل تقوم أنت أيها الداعية! أو أيها المسلم! أو أيها الملتزم المتدين بواجب الدعوة! هل وقف التزامك عند توفير لحيتك وتقصير ثوبك فقط؟ أم أصبحت أيضاً تتمعر وتتغيض وتتقلب وتنكر المنكر لأن فيه مخالفة ومعصية لله؟ لو وقف إنسان وقال: يا فلان! من أي قبيلة أنت؟ قلت: من قبيلة بني فلان، قال: اللعنة!! هل تسكت؟ لا.
لن تسكت، ستذب عن عرضك وعن قبيلتك وجماعتك، وربما وصل الأمر إلى الثأر والدم، وهو عند من يفتخر بعظمٍ نخر أصبحت الأنهار تجري دماءً عصبية للقبيلة والأرومة، ولكن حينما يكون الأمر لدين الله، ما كأن الأمر يعنيك.
يقاد للسجن إن سب الرئيس وإن سب الإله فعند الناس أحرار
لا ينبغي أن يكون هذا الميزان أبداً، أبو هريرة رضي الله عنه كانت أمه قبل أن تسلم على الجاهلية والكفر، وكان إذا دعاها: يا أمه! يا أميمه! أسلمي وآمني وصدقي بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكانت ربما شتمت أبا هريرة وسبته وطردته، وذات يومٍ جاء وقال: يا أماه! إلى متى وأنتِ حكامة في ضلالك، ألا تصدقين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ ألا تشهدين أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ فقامت أمه وسبته وسبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى الأمر بالنسبة لـ أبي هريرة؟ جاء ينتفض إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي: يا رسول الله! -ماذا بك يا أبا هريرة؟ - قال: كنت أحتمل ما ينالني، أما وقد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أرضى بهذا ولا أحتمل، يا رسول الله! ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد أم أبي هريرة إلى دينك) فعاد أبو هريرة إلى البيت، فلما سمعت بقرع نعاله، قالت: على رسلك يا أبا هر! فعجب، وإذ بخرير الماء يسمعه، وإذ بها تغتسل، فلما فرغت قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
أن يتغير الإنسان ويتمعر، وأن يضيق لأن دين الله يخالف فيه ما يخالف أو ينتهك فيه ما ينتهك، هذا هو الأمر، ولذلك علل نوح عليه السلام الضلال والبعد والإمعان والإصرار من قومه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:٥] بعض الناس مزاجه لا يفتح إلا في الليل، فلابد أن تزوره في الليل، أما في النهار فليس عنده استعداد أن يقبل الدعوة، مزاجه على الرصيف في الليل يقبل الدعوة، فلا حرج أن تزوره في رصيفه العادي، ومن الناس من لا يقبل الزيارة والدعوة إلا في النهار، وفي الليل كالدجاجة ي