للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحوال الناس بعد النفخ في الصور]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند وعن النظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

معاشر المؤمنين! اعلموا أن لهذه الدنيا بما فيها ومن عليها نهاية، نهاية بأمر الله ووقوع آية من آياته، وسيأتي على الخلائق يوم وهو يوم جمعة يصعق فيه الجن والإنس والمخلوقات جميعاً إلا من شاء رب العالمين {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:٦٨] وإذا وقعت تلك النفخة فحينئذ لا يستطيع أحد أن يستدرك من أمره شيئاً {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:٤٩ - ٥٠] وعند ذلك تنطلق صيحات الندم والتمني كما في الحديث الصحيح، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد حين تقوم الساعة فقال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها) رواه البخاري.

والنفخ في الصور -يا عباد الله- هو من أكبر وأعظم علامات يوم القيامة، والنفخ في الصور مرتان وقيل ثلاث مرات: الأولى: يصعق فيها العباد، والأخرى: يبعثون بها {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] فبعد النفخة الأولى ينزل الله جل وعلا من السماء مطراً فتنبت منه أجساد العباد، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور، خرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً ويقولون: من بعثنا من قبورنا؟ من بعثنا من مراقدنا؟ {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:٥٢ - ٥٣].

واعلموا -يا عباد الله- أن نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم هو أول من تنشق عنه الأرض، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) ثم يحشر الخلائق أجمعون إلى الموقف العظيم، يحشر الله الأولين والآخرين أينما كانوا، أينما كانوا فإن الله يأت بهم جميعاً، سواء كانوا في القبور أو في البحار، أو في بطون السباع، أو في حواصل الطير {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:١٤٨].

وفي ذلك اليوم لا يبقى أحد صغيراً كان أو كبيراً عزيزاً أو حقيراً إلا جاء خائفاً وجلاً {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:٩٣ - ٩٥] ويقول جل وعلا: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:٤٧] ثم تأملوا وتفكروا في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الخلائق كلهم أجمعون، ويحشر معهم الوحوش والبهائم والطير والسباع، فإذا تأملت حال الخلائق في ذلك الكرب العظيم، وجدتهم حفاة عراة غرلاً أي: غير مختونين، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤] يوم أن سمعت عائشة رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلاً قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) متفق عليه.