للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التدرج في الإصلاح سنة كونية]

معاشر المؤمنين والذين ترونهم من فرط غيرتهم على إصلاح مجتمعهم ليسوا أيضاً من البله أو من الحمقى، أو من الأغبياء الذين يفرحون ويريدون أن يصلح المجتمع بين عشية وضحاها، إن الله جل وعلا من سننه التدرج، ما خلقت السماوات والأرض في يوم واحد: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:٣٨] وما نزلت الأحكام جملة واحدة، وإنما نزلت تدريجية ونزل التشريع فيها متدرجاً، وإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) ولم يقل: إن أول ما تدعوهم إليه توفير لحاهم، أو الصدقة أو الزكاة، بل قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) الأولى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والثانية: الصلوات الخمس: (فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم إلى آخر ما جاء في الحديث) فالتدرج في التشريع والتدرج في الإصلاح سنة ماضية، والدعاة يوم أن يقولوا: إن المجتمع بحاجة إلى أن تتظافر جهود العلماء والولاة والمفكرون، وأساتذة الجامعات وأرباب التجارب الطويلة والخبرات النافذة، يوم أن يقولوا: ينبغي أن تجتمع هذه العقول وهذه الجهود، لا يقولون: إن المجتمع سيصلح بين عشية وضحاها.

حينما نتكلم عن إصلاح البنوك أو عن التخلص من الربا، لا يعني ذلك أن ينتهي الربا في يوم وليلة، وإن كنا نسأل الله صباح مساء ألا يبقي للربا بقية في دينار ولا درهم، لكن التدرج أمر طبيعي مطلوب، وكذلك في إصلاح الإعلام، أو في إصلاح التعليم أو في إصلاح كثير من المجالات، واضرب لما شئت من كل مثل تصل به إلى فائدة التدرج حتى في إصلاح الفرد، إنك يوم أن تدعو شاباً وهو لم يرتبط بأجهزة ولا بمؤسسات ولا بدوائر عدة، لا يعقل أن تبدأ في إصلاحه في أموره كلها، أو أن تبدأ بصغير ذنوبه قبل أن تلاحظ كبيرها، فخذ على سبيل المثال رجلاً لا يصلي ويدخن ويسبل ويسمع الغناء ويشرب المسكرات، فهل من العقل أن تبدأ بإصلاح إسبال ثوبه أو بتوفير لحيته؟ هذا جنون، تبدأ فيه بأن يصلي مع المسلمين، بأن يحضر الصلاة مع الجماعة، ثم تبدأ به في إصلاح كثير من أحواله، ثم يأتي الحديث عن تدخينه ويأتي الحديث عن سماع الأغاني واللهو، ويأتي الحديث عن شربه للدخان بعد حديثه عن المسكرات وغيرها.

إن الدعاة ليسوا أغبياء، ويفهمون أمور التدرج فهماً طبيعياً، وأيضاً خطابهم مع كل فرد في إصلاحه بأن يتدرج، وليس بالضرورة إما أن نصر على عشرة ذنوب أو أن نقلع عنها فوراً، نعم.

نتمنى ونود ونشتهي وندعو أن يتوب العبد من كل ذنب في ساعة واحدة، وأن يعود إلى الله جل وعلا عوداً سريعاً حميداً، ولكن -يا معاشر المسلمين- إذا لم يتحقق ذلك إما أن نقول: تب منها جميعاً أو ابق عليها جميعاً لا.

فلئن قال: أتوب من خمسة وأسأل الله الذي فتح علي بالتوبة من الخمسة أن يتوب علي في ما بقي منها فهذا أمر مطلوب، وهذا أمر مشروع، وهذا أمر مقبول، الذي أردناه أن نفهم أننا لن نفرط بمجتمعنا، ولن نتساهل بأمر مجتمعنا، وسنظل نصرخ ونتكلم ونقول ما نعتقد أنه يرضي الله جل وعلا، وتبرأ به الذمة نصيحة لولاة الأمر ولعامة المسلمين وإلا فستشهد المنابر علينا يوم القيامة أننا ارتقيناها فداهنا ونافقنا فيها، ستحاسبنا المنابر يوم القيامة أننا وقفنا عليها ولم نؤدِ صميم الكلمة بصدق وإخلاص إلى عامة المسلمين وصغيرهم وكبيرهم.

فيا معاشر المؤمنين هذا تعقيب على الجمعة الماضية يوم أن نقول: إن الإسلام قد أمرنا بأن نتحمل مسئولياتنا، ومن أهم مسئولياتنا المحافظة على المرأة حتى لا تقع في التفلت والتسيب، وإن جوانب التفلت والتسيب قد تبدو موجودة في بعض الثغرات الموجودة، في بعض المجالات الموجودة فإنها دعوة إلى الإصلاح، دعوة إلى أن نمضي خطوة إلى الأمام، ولأن نوقد شمعة في الظلام خير من أن نلعن الظلام ألف مرة، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة هذا لمن جمع الهمة وعزم القصد وأخلص النصيحة للمسلمين أجمعين.

اللهم لا تفرق جمعنا، اللهم لا تشتت شملنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.