للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الابتلاء يكون على قدر الإيمان]

ابتلاؤنا على قدر إيماننا، وكان الأوائل يبتلون بأنواع البلاء كالجبال لصلابة دينهم، وقدم سابقتهم، وثبوت خطاهم في الدين، كلما كان الرجل صلباً في دينه كانت درجة الابتلاء والامتحان عليه أعظم، فابتلاء كثير منا بصوت أو صورة أو حالة أو موقف يسير يسير جداً، فسرعان ما ينهزم، هذا يبتلى بأولاده يصارعونه: نريد طبقاً يستقبل البث، نريد ما يسمى بالدش، نريد ونريد ونريد فيسقط أمامهم، ويهزم في معركتهم فيقدم لهم ما يشتهون في معصية الله.

وذاك يبتلى من أماني وأهواء أهله -زوجه- فيقرهم على ما يسخط الله، وذاك يبتلى بقليل وكثير وصغير وكبير ومع ذلك لا يصمد أمام الابتلاء إلا يسيراً أو قليلاً، ثم يكون كجبل من الشمع أو جبل من الثلج يذوب عند أدنى حرارة من الابتلاء.

وكان الأوائل يبتلون بالأمور العظيمة والكبيرة.

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

ابتلي الشيخ/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المحدث العالم الأصولي الفقيه النحرير البارع المعروف، حفيد إمام الدعوة، وليس أول من ابتلي وإنما نضرب الأمثلة من التاريخ القريب حتى لا يقول أحد: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:١٣٤] فيستدل خطأً بهذه الآية على أن أخلاق الأوائل تنعدم في الأواخر.

ابتلي أمام الأتراك -أمام العثمانيين- قالوا له: أنت تكفر من يدعو الأضرحة أو يستغيث بالقبر أو يتوسل بهذا القبر ليدفع بصاحبه بلاءً حل أو يرجو به نعمة فقدت؟ قال: نعم.

من دعا غير الله كفر، ومن طلب النصرة من غير الله كفر، ومن توكل على غير الله في نصرة كفر، فما كان منهم إلا أن امتحنوه فأوثقوه وما رجع، وعذبوه وما رجع، ثم وضعوه في فوهة المنجنيق وأطلقوا قذائف المنجنيق حتى تطاير لحمه وعظمه وأشلاؤه ودماؤه وهو يموت من أجل لا إله إلا الله، من أجل كلمة التوحيد، ابتلاء على قدر جبال الإيمان.

ثم ابتلي أبوه مرة أخرى، فجاء الباشا، وقال: يا شيخ! قتلنا ولدك، فقال الشيخ/ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: لو لم تقتلوه لمات في ساعته في مكانه، فثبت أمام هذا النوع العظيم من الابتلاء بفقد الولد الصالح العالم.

وآخرون يبتلون بأمور عظيمة، يبتلون فيصبرون، ويمتحنون فيثبتون، بل إن بعضهم قدم نفسه حتى يرفع شيئاً من البلاء عن الناس، من يقرأ التاريخ يعلم أن الدولة السعودية الأولى قام زعيمها وإمامها لما حاصره الأتراك وضربوه ضرباً شديداً في الدرعية، ولم يبق معه من القوة على القدرة بالمقاومة شيئاً يستطيعه، خرج إليهم فقال: ما تريدون؟ قالوا: نريدك أنت، قال: نعم.

أسلمكم نفسي بشرط: ألا تغتصبوا امرأة من أهل الدرعية، وألا تعترضوا لشرفها أو عفتها، وألا تنتهكوا الناس في دورهم، وألا تأخذوا من قوتهم وأرزاقهم، فلما قبلوا العرض سلم نفسه صابراً على هذا الابتلاء، فذهب به إلى مصر ثم إلى الأستانة فقتل هناك رحمه الله.

ابتلاء عظيم يقدم فيه الرجال، يرون الموت {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:١٤٣] يقدمون على الموت طائعين مختارين راضين غير مكرهين.

خرجنا إلى الموت شم الأنوف كما تخرج الأسد من غابها

نمر على شفرات السيوف ونأت المنية من بابها

ونعلم أن القضا واقع وأن الأمور بأسبابها

ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب حناناً بها

فإن نلق حتفاً فيا حبذا المنايا تجيء لخطابها

وكم حيةٍ تنطوي حولنا فننسل من بين أنيابها

أيها الأحبة: يبتلى أهل القلوب الكبيرة والعقول الكبيرة بدرجة إيمانهم، وكلما كان الرجل صامداً صلباً في دينه كان بلاؤه أعظم، وعلى كل حال فالابتلاء لكل العباد، لا تغبطنَّ ملكاً في ملكه، ولا أميراً في إمارته، ولا وزيراً في وزارته، ولا رئيساً في رئاسته، ولا غنياً في غناه، ولا ذا ولد فيما أوتي، ولا بعيد أو قريب في حال، فإن جميع العباد في كدر {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤].

من ذا الذي قد نال راحة عمره فيما مضى من عسره أو يسره

يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينةٌ في صدره

ولقد حسست الطير في أوكارها فرأيت منها ما يصاد بوكره

أو ما ترى الملك العظيم بجنده رهن الهموم على جلالة قدره

فتراه يمشي والهاً في نفسه همٌ تضيق به جوانب صدره

ولرب طالب راحةٍ في نومه جاءته أحلام فهام بأمره

والوحش يأتي حتفه في بره والحوت يأتي موته في بحره

كيف التخلص يا أخي مما نرى صبراً على حلو القضاء ومره

فالواقع أن الناس جميعاً في بلاء، فمستقل ومستكثر ولو رأيت ذا نعمة، فهو في بلاء.

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

أيها الأحبة في الله: إن واقع المؤمنين يعلمون أن الله لم يقدر قدراً وإن كان في ظاهره مصيبة إلا وهذا القدر مشتمل على تمام العدل؛ لأن الله لا يظلم، ومشتمل على تمام الحكمة؛ لأن الله لا يقدر عبثاً، ومشتمل على تمام الرحمة؛ لأن رحمة الله وسعت كل شيء؛ ولأن رحمته سبقت غضبه، ففي كل حال ليس في الدنيا لذة إلا وهي مشوبة بالكدر، فما تظنه في الدنيا شراب فهو سراب، وعمارة الدنيا وإن حسنت صورتها خراب، وما جمعت فيها فهو للذهاب، ومن خاض الغمر -الغمر هو: الماء الكثير- لم يخل من بلل، ومن دخل بين الصفين لم يخل من وجل، فالعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع؟! وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع!