للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عظم منزلة الذكر في الشرع]

أيها الأحبة: وحسبكم دلالةً وبياناً على أن الذكر عبادةٌ عظيمة: أن كل عبادةٍ مربوطةٌ بالذكر بعد الفراغ منها، فالصلاة ذكرٌ وعبادة ثم يشرع بعدها ذكر الله، والحج توحيدٌ وذكر، ثم بعده يشرع ذكر الله، والصيام عبادة، ويشرع بعده ذكر الله، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:٢٠٠] وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النساء:١٠٣] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:٤٥] {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة:١٨٥].

فمن دلائل أن هذا الذكر عظيم: أن العبادة ذات العبادة تختم بعد ذلك وتتوج بذكر الله جل وعلا، وحسبكم يا معاشر المؤمنين! في ذكر الله علواً وعبادةً جليلةً أن كل عبادةٍ تنقطع في الجنة إلا عبادة الذكر فهي باقية!! ليس في الجنة صيام، وليس في الجنة صلاة، وليس في الجنة جهاد، ولكن في الجنة ذكرٌ لله؛ فالتكاليف الشرعية في الدنيا تنقطع عن العباد في الآخرة، إلا ذكر الله فهي باقية، ولكنها باقيةٌ على وجه الكرامة والتشريف، وليست على وجه التكليف.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: فصلٌ في ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة: دل على ذلك حديث مسلم في صحيحه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قال صلى الله عليه وسلم: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاءً ورشحاً كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النَّفس) وفي رواية: (يلهمون التسبيح والتكبير، كما تلهمون أنتم هذه الأنفاس) أي: يلهمون تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس.

الله أكبر: كل عبادةٍ في الجنة ترتفع إلا عبادة ذكر الله، ما ذاك إلا لفضلها، وعظمها وشرفها وعلو منزلتها، فهنيئاً للذاكرين:

عطايانا سحائب مرسلاتٍ ولكن ما وجدنا السائلينا

وكل طريقنا نورٌ ونورٌ ولكن ما رأينا السالكينا