للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحزم والجد مجلبة للاحترام]

أيها الأحبة: إن من سنن الله أيضاً: أن الجد والعمل نتيجته محمودة، فلو أن مائة عامل مسلم كل منهم يصوم الإثنين والخميس ويتهجد الليل؛ لكنه كسول بطال، ومائة عامل بوذي كافر لكن يعملون في الصباح والمساء لأنتج البوذيون عملاً ينفعهم، ولم يستطع ذلك المسلم أن ينفع نفسه بشيء، كثير من الناس يخلط بين قضية التدين والعمل، أو الاستقامة والسلوك والعمل، انظر يا أخي الكريم! فيما يتعلق بسلوكك الشخصي، هذا أمر ترجو به الجنة وتنجو به من النار بإذن الله جل وعلا، وترجو به رضا الله، لكن لا يلزم إذا كنت متديناً أن تفتح لك أبواب السماء ذهباً وفضة.

إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء رجل يسأله وأعطاه درهمين أو أقل أو أكثر، فقال: (لو أن أحدكم اشترى حبلاً فاحتطب فباع خير له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) ما قال النبي: أنت من الصحابة ولن يضيعك الله وسيَنزِّل عليك رزقاً من السماء، لا.

القضية قضية العمل، العمل للإسلام مطلوب، والعمل بجدية مطلوب، ومن هنا أطالب كل الشباب المسلم؛ ولا أخص الملتحي وأترك الحليق، أو أخاطب الذي لا يدخن وأترك المدخن، أو أخاطب الذي اتبع السنة في ثوبه وأترك المسبل، أقول: نحن جميعاً يا معاشر الشباب المسلم! سواء فينا السابق بالخيرات؛ المهتم المعتني بالطاعات، أو الظالم لنفسه بالمعاصي، أو المقتصد، أخاطب الجميع بأن يجدُّوا في أعمال دنياهم، وأن يجدوا قبل ذلك في أمر دينهم، لا أن تظن أن كونك تدينت أو التزمت واستقمت فإن المسألة قد انتهت، لا.

ولذلك قال عمر: [إني أرى الرجل فيعجبني فأسأل هل له من عمل فيقال: لا.

فيسقط من عيني] لأنه عنصر مستهلك في المجتمع؛ ولا ينفع ولا ينتج.

لذلك -أيها الأحبة! - ينبغي أن نؤكد جيداً أن مسألة الجد والصبر والعمل ينتج في العامل أياً كان نوعه؛ يهودياً، أو نصرانياً، أو بوذياً، ولا تظن أن السماء سوف تنفتح لك، لا بد أن الله جل وعلا وعد المتقين بالخير لكن مع بذل الأسباب، ولو كان مجرد الإسلام والإيمان والإحسان يحقق النصر ويجلب الخير لكفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم مؤنة القتال في بدر، ومشقة القتل لأصحابه في أحد، وكسرت رباعتيه، وشج وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في رأسه الكريم صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لا تظن أنك إن تدينت انتهت المسألة، نريد منك عملاً، ونريد من الذي لم يستقم بعد أو لم يتدين أن يستقيم وأن يتوب وأن يعود إلى الله، وأن يستحي على وجهه بكل معانيها التي يعرفها والتي لا يعرفها، نقول: استحِ على وجهك وكفاك ضياعاً أن بلغت العشرين أو قاربتها أو جاوزتها، أو قاربت الثلاثين وأنت لا تزال لا هم لك إلا ملاحقة السيقان العارية عبر الفيلم، ورؤية الوجوه المصبغة الملونة بمساحيق التجميل عبر المجلة، وسماع الآهات والأنات الخليعة الماجنة عبر الأغنية.

نقول: استحِ! إلى متى هذا الضلال؟ إلى متى هذا الضياع؟ إلى متى وأنت في لغوائك وغفلتك وجهلك والمسلمون يذبحون ويقتلون؟ أما يكون لك باعثاً وحافزاً أن ما آتاك الله من النعم في أمن وطمأنينة أن تقابله بالشكر والجد والاجتهاد في مرضاة الله جل وعلا؟ ثم -أيها الأحبة! - إن الجاد والحازم إذا سعى في أمر من أموره بجدية وبحزم لا شك أنه يناله شيء من التعب أو المشقة، ولكنه يجد راحة وسعادة وطمأنينة، ويجد احتراماً لنفسه لا مثيل له، لكن ذلك الجثة القعدة الرقدة الذي هو كالعنز أو كالنعجة لا تجاوز مراحها، لا هم لها إلا أن يلقى بأكوام التبن عند فمها، ثم تأكل ما تأكل ثم يرفع عنها ذلك ويقدم لها الماء، ذاك الذي يضر الأمة ولا يفلح، ويفسد ولا يصلح، وكما قال القائل:

وأنت امروءٌ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع

مصيبة إنسان أنه محسوب على الأمة حياته لا منفعة فيها، ولو جاء خطر فجعنا عليه؛ لو أصابه حادث بحثوا له عن أحد يتبرع له بالدم، لو أصابه فشل كلوي بحثوا له عن أحد يتبرع له بكلية، لو أصابته أي مصيبة بحثوا له عن أحد يساعده، فهذه مصيبة ذلك الشاب الذي لا ينفع.

أقول: إن الجاد مهما ناله من تعب الجد، ومشقة الحزم فإنه يحترم نفسه، فالإنسان هو الذي يحترم نفسه:

أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما

من كانت نفسه عزيزة لا تقبل إلا المعالي؛ أكرم نفسه وأكرمه من حوله، وأما من هان على نفسه وهان عند ربه فكما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:١٨].

إن من اختار أن يذل نفسه بالمعصية، وأن يهينها بمخالفة أمر الله، وأن يرى نفسه في ذَنَبِ الركب عصياناً لله جل وعلا، كيف تريد أن تحترمه نفسه؟ ولو قرأتم ما كتبه ابن القيم رحمه الله في كتابه الجميل الرائع: الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، قال: ومن عقوبات المعصية: أن صاحبها يجد ذلاً في نفسه، وظلمة في وجهه، وهواناً على الناس، ويتجرأ عليه أدنى من حوله.

وكما قال الحسن البصري: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه].

هذا الجاد -أيها الأحبة! - وإن ناله تعب من الجد فإنه يشعر بعزةٍ وإكرامٍ لنفسه، وأما ذاك الذي شبهناه بالعنز أياً كانت استرالية أو مصرية، أو سورية أو عنزاً نجدية، سم ذلك الإنسان بما شئت، الكسول تجده يحتقر نفسه، ويرى على نفسه هواناً، ويجد في نفسه ذلة، وإذا عرضت عليه معالي الأمور وأراد أن يرتفع لها جاءه إبليس وجره من رقبته، قال: اقطع عنك هذه الأفكار، أنت لست بكفءٍ لهذه الأمور، اتركها الآن.

الشيطان يعرف صاحبه جيداً، نعم وقت التزيين للمعصية تجد الشيطان يؤز صاحبه أزاً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:٨٣] تدفعهم دفعاً، لكن لو جاء أمر من الخير عند إنسان صاحب معصية، أو مغرق ومصر على المعاصي، أول ما يأتي صاحب الخير ويريد أن يبدأ، وذلك العاصي سابقاً لم يرد أن يتجه إلى الخير يأتيه الشيطان يقول: مازال وجهك وجه محاضرة؟!! اذهب وانظر لك أناساً يشيشون (معسل باعشن) أو انظر أناساً يتنتنون؛ أو أناساً يفحطون، ابق معهم أفضل لك من أن تجعل نفسك في هذا المقام.

الشيطان يتجرأ عليك ويجرك بتلابيبك من خلف رقبتك، ويجبذك ويجذبك ويدفعك إلى مهاوي الرذيلة والانحراف والفساد، ويقعد بك عن أماكن الخير.

ولذلك نقول: يحتاج أحبابنا الشباب إلى دعوة، يحتاج كثير من الشباب من ينتشلهم من وحل المعصية إلى طهارة الطاعة، يحتاجون من يأخذ بأيديهم من نتن المخالفات الشرعية إلى عز الموافقات الشرعية؛ لأن القليل القليل من الناس من تجده فكر في أمر نفسه من تلقاء نفسه ثم اهتدى بنفسه، وفي الغالب أن كثيراً من الناس كان لهدايتهم سبب؛ إما أن تكون دعوة، أو نصيحة، أو شريطاً، أو معسكراً، أو حجاً، أو أي عمل من الأعمال التي كانت سبباً في دفعه، لكن يأتي شيء يأخذ بيده وينتشله مباشرة، فذاك أمر في النادر والقليل.

أقول: إن الكسول يحتقر نفسه، وزيادة على ذلك يمل من نفسه ويكرهها نفسه، خذ مثالاً على ذلك: شاب مجتهد، وليكن هذا المثل في الشتاء لأن ما بين صلاة الفجر والصباح شيء يذكر: ستجد أن ذلك الشاب الجاد صلى الفجر مع الجماعة ثم عاد وتهيأ وأفطر، ورتب دروسه أو أعدها من قبل، ثم أخذ ما عنده من كتب وكراسات وذهب وجلس طول النهار، عينه في وجه المدرس، وقلبه إلى ما يقول المدرس، وفكره منتبه إلى ما يشير إليه معلمه، ثم جاء بعد الظهر متعباً، لكن قليلاً من التعب أورث كثيراً من العزة، والراحة والكرامة في نفسه فتجده معتزاً معتنياً بنفسه، وفي المقابل ذلك الكسول الذي كان البارحة سهران، لكن سهران على ماذا: أيتهجد؟ لا، وبالمناسبة يقول ابن الجوزي: إن رجلاً كان له جار فاسق فسمعه يبكي في الليل، قال: عجبت من بكاء هذا الرجل هل هو يتهجد أم يقرأ؟!! فلما أصبح طرق عليه، قال: يا فلان! سمعتك البارحة تبكي؟ قال: كنت أقرأ آية وأبكي -قال: إذاً فتح الله عليه لعله إن شاء الله تاب- قال: وماذا كنت تقرأ؟ قال: كنت أقرأ قول الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:٢٢٢] المصيبة أن ذلك السهران البارحة لم يكن سهران في طاعة، بل سهران على فيلم أو مسلسل أو مجلة، أو كلام فارغ أو أشياء لا تليق، ثم بعد ذلك نام متأخراً وترك صلاة الفجر، ثم إن كان حوله من يوقظه أو لم يوقظه، المهم لم يعبأ ولم يلتفت لدراسته جاء من يوقظه فانقلب على جنبه بريح وبخر نتن، ثم انقلب مرة ثانية على فراشه ونام حتى أذن الظهر أو بعد صلاة الظهر، ثم استيقظ كالشيطان، ينظر إلى الناس قد عادوا من أعمالهم، من مدارسهم، من جامعاتهم، وهو قام يفرك عينيه وينظر في الغادين والرائحين، والغاديات والرائحات، ويحسد هؤلاء الذين آبوا بجد وعلم، وفهم وحلم ومثابرة، ويجد من نفسه هواناً.

ذلك الجاد تعب؛ من الصباح ذهب وجلس على كرسي قد يكون مريحاً أو غير مريح، وصبر على تعب الدراسة وطلب العلم، أو على الوظيفة، وثابر، لكن هذا كان على فراشه، ذاك عاد بتعب يسير وراحة كبيرة، وهذا قام بعد أن تقلب على الفراش حتى مل الفراش منه، ووسادته لو تكلمت لقالت: قم قبحك الله.

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى أو كان لو علم الكلام مكلمي

شتان بين عنترة وبين صاحب الوسادة، لكن قام وهو يجد لنفسه هواناً، ويجد في نفسه ذلة وامتهاناً بسبب ذلك الكسل.

إذاً: فالجد أيها الإخوة سبب احترام الناس.

والله العظيم إن مثل هذا لمصيبة، كان عند أحد الأوائل ولد أبله؛ لا يفقه ولا يعمل، أراد أن يستفيد منه ذات مرة قال: يا ولدي! اذهب واشتر لنا حبلاً طوله متران، وأعطاه ريالين، وراح الولد وراح وراح وأبطأ وخاف عليه الأب: يا ربي! ماذا أصاب ا