للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضعف الإيمان]

إن من أسباب الانحراف أيها الأحبة: ضعف الإيمان وعدم تعظيم أمر الله عز وجل؛ إن من الناس مَن لو قلت له تفضل هذه ورقة من الحقوق المدنية أخذ ينتفض أسبوعاً كاملاً، ويذهب إلى الشيخ والصديق والقريب: ماذا أفعل؟ وماذا أقول؟ وكيف أجيب وأتصرف؟ وكيف السبيل؟ وما الطريقة؟ وأين الملجأ والملاذ؟ وأين المعين؟ يعد لهذه الورقة ألف جواب من شدة خوفه من البشر، أما رب البشر عز وجل الذي خلقه من العدم، الذي جعله سميعاً ولو شاء لجعله أصم لا يسمع، الذي جعله بصيراً ولو شاء لجعله أعمى لا يبصر، الذي جعله قادراً على المشي والحركة ولو شاء لجعله مشلولاً معوقاً، فإن كثيراً من الناس لا يبالي بأمر الله، ولا يخاف ولا يقيم لأمر الله وزناً، بل كما قال نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:١٣] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].

إذاً أيها الأحبة! ضعف الإيمان، وعدم الخوف من الله عز وجل، هو الذي أحدث عند كثير من هؤلاء الجرأة على الانحراف، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) روى هذا الحديث البخاري ومسلم.

فضعف الإيمان والهيبة من الله عز وجل جرأ الكثير من الشباب والشابات والرجال والنساء على معصية الله عز وجل، والله إن بعضهم لو قيل له في عمله: مدير الشرطة يريدك، قال: أنا ما فعلت شيئاً، ليس عندي مشكلة! لو قيل له: قسم الحوادث في المرور يريدك، قال: أنا لم أقطع إشارة! يحاسب نفسه، ويتخيل طريقه منذ أن خرج من بيته إلى أن عاد، هل تجاوزت خط المشاة؟! هل قطعة الإشارة؟! هل سلكت طريقاً ممنوعا؟! هل خالفت السير؟! يسائل نفسه مائة سؤال نتيجة لهذه المكالمة.

أما هل يسأل نفسه قبل أن يخرج من البيت: هل يسلم من المعصية؟ هل يسلم من الزلل؟ إذا أراد أن يذهب إلى مجلس يا لسان تعاهدني ألا تنطق إلا بحق؟ يا أذن تعاهدين ألا تسمعي إلا خيراً؟ يا قدم تعاهدين ألا تمشي إلا إلى أمر فيه صلاح؟ يا يد هل تأخذين أو تمدين إلا إلى شيء فيه نفع للإسلام والمسلمين؟ القليل من يتحدث مع جوارحه وحواسه، لكننا أو البعض منا يهاب من البشر هيبة ما يهابها من الله عز وجل، وكما قال بعض السلف يعاتب بعض العصاة: [لا تجعل الله أهون الناظرين إليك].

إن طول الأمد والبعد عن الأجواء الإيمانية هو الذي سبب ضعف الإيمان، فإذا كان الإنسان يصبح في عمله، وبعض مجالات العمل يبتلى فيها بعض الناس بجلساء ليس لهم حديث والعياذ بالله إلا عن المعاصي أو عن الفواحش أو إغراق في أمور الدنيا، أو عن الشهوات أو أو إلخ.

ثم يعود إلى عمله فيأكل لقمته، ويرمي بنفسه، وتفوته الصلاة، وربما ركعها في البيت وصلاها في غير وقتها، ثم قام إلى شلته وسهر معهم، وعاد متأخراً إلى بيته، وزوجته الحزينة وأولاده الضائعون يتمنون رؤيته لحظة أو لحظات من سائر اليوم كله، ثم بعد ذلك يداوم على هذا البرنامج والمنهج.

البعد عن الأجواء الإيمانية يسبب جرأة في المعصية، ويسبب جرأة في ارتكاب المحارم، وما الذي يفرق بين شخصين، شخص تعرض عليه الفاحشة والمعصية والشهوة والفتنة، فيضطرب وينزعج ويخاف ويبكي، ربما بعضهم يبكي من شدة انزعاجه مما عرض عليه من المعصية، وفي المقابل شخص يخطط يدبر يلاحق يطارد يبحث يعاكس يتصل يبذل يغري؛ من أجل أن يصل إلى المعصية، أليس هذا بشر وهذا بشر، وعند هذا غريزة وعند هذا غريزة؟ لكن الأول الذي عرضت عليه المعصية، فقال: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٧] كان سبب إعراضه عن المعصية هو أنه كان قريباً من الأجواء الإيمانية والمساجد، إذا سمع (حي على الفلاح) انتعشت روحه وطار فؤاده، تلذذ كأنما يسمع صوت حبيب يناديه ويناجيه، ويقربه، ويتمنى سماع صوته، انظر أحب أحبابك إليك، وأطيب أصدقائك وأقربهم منك حينما يناديك، انظر كيف يطير قلبك فرحاً لإجابة دعوته وصوته، وترديد صدى كلماته بارتياح وطمأنينة منك.

الذين يعيشون الأجواء الإيمانية؛ إذا سمع أحدهم (حي على الفلاح) شعر أن جبال الهموم تقشعت، وسحائب الظلام زالت، والسحب الكثيفة من الضباب ومصائب الدنيا، والمشاكل، والقيل والقال زالت، سيمشي لا يريد فلاناً ولا فلاناً، ولكن سيذهب إلى الذي خلقه من العدم، سيتجه ليركع ويسجد، سيشكي أموراً، سيحكي أحوالاً، إذا سجد وأناخ جبينه على الأرض يا ألله أنت تعلم ما أنا فيه من ضعف، يا ألله أنت تعلم ما أنا فيه من حال، يا ألله اغفر لي، يا رب أكرمني، يا رب أعطني، سبحانك ما عبدتك حق عبادتك، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، تجد لذته في أن يركع ويسجد لله عز وجل، والسبب هذه الأجواء الإيمانية.

أما الذين لا يعيشون الأجواء الإيمانية، ولا يشهدون الجماعة، ولا يحضرون المحاضرات، لا يسمعون الهدى والمواعظ، كل حديثهم في الدنيا والمعاصي والشهوات وما إلى ذلك، فإن أولئك تقسو قلوبهم خاصة مع طول الزمان، قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦] فدلت الآية على أن طول الوقت الذي أمضوه بعيدين عن الأجواء الإيمانية كان سبباً لقسوة قلوبهم، وضعف الإيمان في القلب هو من أهم أسباب الانحراف.

ولذلك نلاحظ هذا الشيء في الذين يعيشون أو يكرمهم الله بالعمل ولو فترة من الفترات في مجال الدعوة، أنت تلاحظ الشاب الذي يلازم الحضور إلى حلقة القرآن، إلى مكتبة المسجد، إلى المعهد والجمعية التوعوية، هذا الشاب الذي يأتيك دائماً مواظباً على هذه اللقاءات؛ تجده بإذن الله غضاً طرياً، مستجيباً، حيياً، حفياً تقياً، وأما الذي ينقطع عن هذه المجالس فسرعان ما تلاحظ أثر انقطاعه قسوة في قلبه:

والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أم من أعاديها