للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين المسلم والكافر يوم القيامة]

الحمد لله حمداً طيباً مباركاً كما ينبغي لجلال ربنا وعظيم سلطانه، نحمده سبحانه، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل خيرٍ سألناه أعطانا، له الحمد في الأولى والآخرة، له الحمد وحده لا شريك له، نثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، نرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق.

وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، جل عن الشبيه، وعن الند، وعن المثيل، وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خيرٍ إلا دل أمته عليه، ولا سبيل شرٍ إلا حذَّر أمته منه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

معاشر الأحبة: كلنا يعلم أنه لو كان بانتظار مفاجأة سارةٍ أو ضارة، مليحة أو قبيحة، فإنه يتخيل نفسه فيها، ويتصور ما سيكون له تجاهها، فالذي ينتظر التفرج مثلاً، يتخيل يوماً يقف فيه أمام زملائه وأمام مكرميه، لكي يستلم شهادته غبطاً مسروراً بنتيجة جهده وتحصيله، والذي ينتظر وظيفةً يتخيل مكتبه ومقعده وما بين يديه من الدفاتر والمعاملات، والذي ينتظر زواجاً يتخيل زفافه ومسيره ووصوله إلى أهل عروسه، ويتخيل دخوله على زوجه، ويتوهم ويتخيل أحلى أيامه ولياليه معها، والذي ينتظر صناعةً يتخيل إنشاء مصنعه، والإنتاج في هذا المصنع، ثم خروج بضاعته ومنتجاته وتوزيعها على مستهلكيها، ويقبض غلتها وريعها ومردودها، يتخيل عده دراهمه وإيداعها في خزينته، والذي يتخيل تجارةً، يتخيل بضاعته ومستودعاته ودفاتره ومحاسباته، والذي يهم أو ينتظر سفراً يتخيل إقلاع طائرته، ثم تحليقها وهبوطها ونزوله إلى بلدٍ يسافر إليها، ثم بعد ذلك يتخيل أيامه في سياحته أو في سفره وتنقلاته، ونحن يا عباد الله! بانتظار مفاجأة سارةٍ أو ضارة، بانتظار مفاجأةٍ مليحة أو قبيحة، حسنها وقبحها، يتوقف على عمل صاحبها، ألا وهي رحلتنا من الدنيا إلى دار البرزخ، ومن دار البرزخ إلى دار القرار والآخرة.

على أي متن رحلةٍ سننتقل؟ وما هي مدة الرحلة؟ ومن هم المضيفون؟ ومن الذين يستقبلون؟ وماذا سيقدم لنا في سفرنا ورحلتنا هذه؟ ينبغي أن نتوهم ذلك وأن نتخيله وأن نتذكره، كيف سيكون شأننا في هذه الرحلة؟ والذي يسافر في رحلةٍ ولا يتخيل ماذا سيكون له من أعماله أو مفاجآته، أو جدول ما سيقدمه ويعده، فذاك نسميه معتوهاً أبله؛ لأنه يسافر إلى بلدٍ لا يدري ماذا سيفعل فيها، ولأي شيءٍ ولأي غرضٍ قدم إليها.

فيا أحبتنا في الله: تعالوا معي، وتخيلوا وتوهموا حالنا، ونحن نودع هذه الدنيا، وننتقل إلى دار البرزخ، تخيل كأنه قد نزل بك الموت وشيكاً سريعاً، فتوهم نفسك وقد صرعك الموت صرعة، ملك الموت واقفٌ على رأسك، يصرعك صرعةً لا تقوم منها إلا في الحشر إلى ربك، فتوهم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه، وسكراته وضمه وقلقه، قد بدأ ملك الموت يجذب أرواحنا من الأقدام، فوجدنا ألم جذب الروح من أسفل القدمين، ثم تدارك الملك الجذب واستحث النزع، وجذبت الروح من جميع أجزاء البدن، فنشطت الروح من الأسفل متصاعدةٍ إلى الأعلى حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه، وبلغت الروح الحلقوم، وعلت آلام الموت جميع جسمك وقلبك، وقلبك وجلٌ محزونٌ مرتقب، تنتظر البشارة أو النتيجة، إما بغضبٍ من الله أو رضى، وقد علمت أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشارتين، لا محيص ولا محجى ولا منجى إلا أن نسمع إحدى البشارتين من الملك الموكل بقبض الروح ونزعها.

يا ابن آدم!

أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

فبينما أنت في كربك وغمومك، وأنت في آلام الموت وسكراته وشدة حزنك، لارتقابك وانتظارك البشارة، كالذي يقف بين يدي الحاكم مطرقاً رأسه، إما أن يؤمر بعذابه أو أن يؤمر بتكريمه وتفريحه، بينما أنت تنتظر البشارة من ربك، إذ نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن صورة، أو نظرت إلى ملك الموت بأقبح صورة، ونظرت إلى الملك، وأنت ترى من حولك وأنت في بعدٍ وفي شأن آخر منهم، تراهم ولا ينظرون إلى ما تنظر إليه -على سريرك أو على فراشك، في بيتك أو في المستشفى- يجثون على ركبهم، ينتظرون ماذا يحل بك، وأنت تراهم وتعلم أنهم لا يرون ما تراه، أنت ترى ملك الموت، نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن صورة، أو نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأقبح صورة، ثم مد الملك يده إلى فمك ليخرج الروح من بدنك، فذلت نفسك، وخارت قواك، وضعفت قوتك لما عاينت ذلك، وعاينت وجه ملك الموت، وتعلق قلبك بماذا يفاجئك من البشارة إذ سمعت صوت نغمةٍ جميلة، أبشر يا ولي الله! برضىً من الله، أبشر يا ولي الله! برضى الله وثوابه، أو تسمع ذلك الملك قبيح الصورة يقول: أبشر يا عدو الله! بغضبٍ من الله وعقابه، فتستيقن حينئذٍ بنجاحك وفوزك، ويستقر الأمر في قلبك، فتطمئن إلى الله أو تستيقن العذاب والهلاك، ويحل الفزع قلبك وتندم حينئذٍ غاية الندم، ويحل بك الهم والحزن أو الفرح والسرور حين انقضت من الدنيا مدتك وودعت من عمرك أيامك وانقطع أثرك، وحملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك، كلٌ يرى حين موته مقعده من الجنة أو من النار، فهذه ابتسامة الموتى يوم أن نراها على وجوههم، أو قلق وانزعاج الوجه والمحيا، حينما يرون ما لا يسرهم.

عباد الله: ثم ماذا بعد ذلك؟ توهم نفسك، تخيل نفسك حين استطار قلبك فرحاً وسروراً، أو ملئ حزناً وعبرةً بفترة القبر وهول مطلعه وروعة الملكين وسؤالهما، يسألانك عن إلهك، عن إيمانك بربك، فمثبتٌ من الله جل ثناؤه بالقول الثابت، أو متحيرٌ شاك مخذول، الذين حولك إن كان منهم من يحبك، وقف لحظات عند قبرك وهو يقول: اللهم ثبته بقولك الثابت، اللهم ثبته بقولك الثابت.

أنت أنت يا من لم تسمع في ظلمة اللحد، واللبن قد أغلق على لحدك، وأهيل التراب حتى ختم باب قبرك، ثم ولى الناس مسرعين إلى حوائجهم ينسونك عند آخر خطوةٍ يتجاوزون فيها باب المقبرة، وإن كان لك من حبيب أو أخٍ في الله وقف عند قبرك والناس قد ولوا وتركوك، وحبيبك هذا يقول: اللهم ثبته بقولك الثابت، اللهم لقنه حجته، اللهم لقنه حجته، فتوهم ذلك وأصوات الملائكة عند ذلك، توهم صوت الملكين حين يناديانك فيجلسانك ليوقفاك على السؤال، توهم كيف تجلس في ضيق لحدك، وقد سقطت أكفانك على حقويك، والقطن سقط من عينك على ركبتيك وقدميك، ثم رفعك البصر، وشخوصك ببصرك إلى صورة الملكين، وعظم أجسامهما، فإن رأيتهما بحسن الصورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة، وإن رأيت ملكين قبيحين تيقنت الهلاك والعذاب، تخيل أصوات الملكين وكلامهما وتخيل سؤالهما، ثم بعد ذلك هو تثبيت الله إن ثبتك أو خذلك، وتخيل جوابك يوم يسألانك، وجوابك باليقين أو بالحيرة والشك، وتخيل إقبال الملكين عليك، إن ثبتك الله عز وجل، وإقبالهما عليك بالسرور، وضربهما بأرجلهما جوانب القبر فينفرج القبر عن النار ثم تنظر إلى النار، وهي تتأجج بحريقها، وأنت تنظر ما صرف عنك من لهيبها ونارها، فيزداد قلبك سروراً وفرحاً، وتوقن أنك نجوت من هذه النار التي نظرت إليها، أو توهم أن الملكين ضربا بأرجلهما جوانب قبرك وانفراجه عن الجنة بزينتها ونعيمها وقولهما لك: يا عبد الله! انظر إلى ما أعد لك، فهذا منزلك وهذا مصيرك، أو تتخيل أن ترى الجنة ثم يقال: حرمت منها، وأن ترى النار ويقال: أنت من أهلها، تخيل سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنان وبهجة ملكها، وعلمت أنك صائرٌ إلى ما عاينت من نعيمها وحسن بهجتها، وإن تكن الأخرى، إن كنت عاينت النار توهم خلاف ذلك كله، تخيل ما ينهرك، وتخيل ما تنظر إليه ويقال لك: انظر إلى ما حرمك الله عز وجل من النعيم، ثم تنظر النار ويقال لك: انظر إلى ما أعد الله لك، فهذا منزلك ومصيرك، فأعظم بهذا خطراً، وأعظم عليه بالدنيا غماً وحزناً حتى تعلم في القبر حالك، وتعلم في القبر مآلك.