للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإقامة في بلد الكفار والركون إليهم]

أيها الأحبة: ومن صور موالاة الكفار: الإقامة في بلدهم والركون إليهم، وعدم الانتقال من ديارهم إلى بلد الإسلام لمن تيسر له ذلك لأجل الفرار بالدين؛ لأن هناك من المسلمين من اضطر إلى البقاء في دار الكفار اضطراراً، فلم يجد بلداً تؤويه، وقد أهدر دمه، أو خشي على دينه، وأصبح في حال لا يأمن فيها على نفسه وعرضه في بعض بلاد الإسلام، فاضطر اضطراراً أن يهاجر ليفر بنفسه وعرضه ودينه.

إن خطر ذوبان المسلمين في مجتمع الكافرين لا يستطيع أحد أن يتصوره، بل لا يصفه لسان ولا يخطه قلم، فالإقامة في بلدهم وعدم التحول منها لمن قدر على ذلك يعتبر من موالاتهم، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:٩٧] يعني: الذين جاءت الملائكة لتقبض أرواحهم وهم لا يزالون في مكة، والعبرة في الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهؤلاء الذين نزلت بهم المنية وحل بهم الموت ولم يهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أذن الله لنبيه وأتباعه بالهجرة، نزلت بهم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:٩٧ - ٩٩] فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كانت في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله، ونشر الإسلام في بلادهم، فلا شك أن إقامته مما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة، لكن البقاء بين كثرتهم الكاثرة مع كثرة الإمساس وقلة الإحساس تقلل العداوة، وتذيب حديد البراء، وتؤثر على سلوكيات المسلم الخلقية.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى أقل إيماناً من غيرهم؛ لأن الإنسان اجتماعي ومدني بطبعه، وهذه جبلة جبل الله عليها بني آدم، فكثرة المساس والمخالطة تفقد الإحساس، لا سيما إذا كان الذي يخالطهم لا يحمل هدفاً في دعوتهم وبيان الحق الذي شرعه الله عز وجل، وهذا معلوم، بل إن الإنسان إذا عاشر بهيمة من البهائم تأثر بطباعها، فمن عاشر نوعاً من البهائم اكتسب بعض طباعها، ولذا صار الفخر والخيلاء في أهل الإبل، وصارت السكينة والوقار في أهل الغنم، وصار أصحاب الجمال والبغال فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق البغال والجمال، بل وصار الحيوان إنسياً ووحشياً فيه بعض أخلاق الناس من المعاشرة وقلة النفرة، ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم -وصدق بأبي هو وأمي-: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه الإمام أحمد وأبو داود.

فإذا كان الأمر كما نسمع، فما بال أقوام لازالوا يعزفون على وتر النشاز، ويعقرون عقائرهم بنداءات مرفوضة وليست بمقبولة، بدعوى التقارب والتآلف والتآخي إلى آخره مع هذه الشعوب الكافرة، نعم.

نحن لا ندعو إلى ظلم أحد، لكن لا ندعو المسلمين أن يذيبوا مسألة الولاء والبراء، لقد قال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله) رواه أبو داود والترمذي، فلا تجوز مساكنتهم في ديارهم وتكثير سوادهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، ألا لا تراءى ناراهما).