للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تأثر التائب أحمد بقصة الربيع بن خثيم وآيات من سورة الفرقان]

قال: ثم إنه دامت الصلة والزيارات بيني وبينه، وما زلنا نقرأ في سير التائبين والصالحين، وكنا نتمعن ذلك ونتدبره، قال صاحبنا الذي يذكر لنا هذه الواقعة: ثم إن التائب هذا بعد الحج حفظ القرآن كله، وأصبح يصوم يوماً ويفطر يوماً، يقول: وفي ذات يومٍ كنا مجتمعين نقرأ في سير الصالحين الأولين، فمرت بنا قصة الربيع بن خثيم؛ ذلك الشاب الذي لم يجاوز الثلاثين من عمره، شابٌ، وسيمٌ، قويٌ، حييٌ، عالمٌ بالله، خائفٌ منه، وكان في تلك البلاد الذي فيها الربيع بن خثيم من الفساق والفجار الذين يتمالئون ويتواطئون على إفساد الناس، وإفساد الأبرار والأطهار الصالحين، قال: ثم إن أولئك تمالئوا وقالوا: نريد أن نفسد الربيع بن خثيم، قالوا: ومن ذا الذي يفسده؟ قالوا: نأتي إلى غانية -والغانية: هي التي استغنت بجمالها عن المحسنات والمجملات- نأتي إلى غانية باغية فندفع لها ما يكون سبباً في أن تغوي الربيع بن خثيم، فأتوا إلى أجمل من عرفوا من البغايا وقالوا: لك ألف دينار، قالت: على ماذا؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع، أن يقبلك الربيع بن خثيم فلك ألف دينار، قالت: ولكم فوق هذا أن يزني وأن يفعل ويفعل ثم إنها تهيأت إلى الربيع من قبله على طريقه في مكان خالٍ، ثم سفرت عن لباسها وتعرضت له في ساعة خلوةٍ، شاب أمام فاتنة جميلة.

فلما رأى بدنها في تلك اللحظة الخالية صرخ بها قائلاً: كيف بك لو نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟! أم كيف بك لو نزل ملك الموت وقطع منك حبل الوريد؟! أم كيف بك لو سألك منكرٌ ونكير؟! فصرخت صرخة عظيمة، ثم ولَّت هاربة وأصبحت من العابدات حتى لقبت بعابدة الكوفة، ثم قال أولئك المفسدون الذين تمالئوا على إفساد الربيع: لقد أفسدها الربيع علينا.

قال صاحبنا هذا: فلما سمع التائب هذه القصة تأثر وبكى، وانفجر باكياً، يقول: الربيع يردها وأنا بقدمي أذهب لأزني بها! الربيع يردها هذه -التي اعترضت أمامه في الطريق- وأنا أذهب لأزني بها! قال: ثم انصرف عن مجلسه باكياً متأثراً، حزيناً منكسراً، ثم بعد ذلك قال صاحبنا: ورأيت أحد العلماء فأخبرته بقصته، وما كان منه من انكسار، وإياب، وصيام، وحفظ للقرآن، وصلاة، فقال: لعل زناه هذا قد يكون سبباً لدخوله الجنة، ولعل بعض الآيات قد تصدق في حقه بل قد تنص في حقه بعينها، وهي قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٦٨ - ٧٠].

قال صاحبنا: لما سمعت هذه الآية عجبت، وقلت: كيف غفلت عن هذه الآية؟! فوليت إلى بيت صاحبنا، وليت إلى بيته في دار أبيه العامرة في قصر أبيه الفسيح، ذهبت إليه لأبشره قالوا: إنه في المسجد، فذهبت إليه في المسجد فوجدته منكسراً تالياً للقرآن، فقلت: عندي لك بشرى! قال: ما هي؟ فقلت له: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:٦٨] قال: فلما بلغت هذه الآية كأني أطعنه بخنجرٍ في قلبه، قال: فمضيت تالياً: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٦٨ - ٧٠] قال: فلما أكملت هذه الآية قفز فاحتضنني وقبل رأسي، وقال: والله إني أحفظ القرآن ولكن كأني أقرؤها أول مرة، لقد فتحت لي باباً من الرجاء عظيماً، وأرجو الله أن يغفر لي بها، ثم أذن المؤذن فانتظرنا إقامة الصلاة، وغاب الإمام ذاك اليوم، فقام مؤذن المسجد وقدم صاحبنا التائب، فلما كبر وقرأ الفاتحة تلا قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:٦٨] فلما بلغ: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٧٠] لم يستطع أن يكملها، فركع، ثم اعتدل، ثم سجد، ثم اعتدل، ثم سجد، ثم قام، فقرأ في الركعة الثانية الفاتحة وأعاد الآية، يريد أن يكملها فلما بلغ: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٧٠] لم يستطع أن يكملها، فركع وأتم صلاته باكياً.