للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإنسان بين البداية والنهاية]

الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعَبَدَ ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله! أحمد الله الذي جمعني بكم على اجتماع طاعة ورضوان من الله سبحانه وتعالى في حلقة من حلق الذكر، في بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى، ما الذي جمعكم؟ ما الذي جاء بكم؟ ما الذي أخرجكم من بيوتكم؟ ألستم ترجون رحمة الله؟ ألستم تريدون ثواب الله؟ ألستم تسألون الله العتق من النار؟ ما الذي جاء بكم؟ ألستم تريدون رفعة في درجات الآخرة، وقرباً من النبي صلى الله عليه وسلم يوم تردون على حوضه الشريف صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي جاء بكم؟ ألستم تريدون زيادة من الهدى أو نوراً من اليقين؟ أبشروا فإن الله كريم، والله لو اجتمع نصف هذا الناس عند ملك من الملوك أو غني من الأغنياء أو ثري من الأثرياء يريدونه شيئاً يقدر عليه، ولا ينقص من ماله إلا الشيء اليسير أو نصف اليسير أو أكثر من اليسير لأعطاهم، فما بالكم وأنتم تجتمعون في هذا المكان تريدون وجه الله، تسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، والله جل وعلا لو أعطى كل واحد منكم مسألته، وتاب عليكم، وغفر لكم، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، فأحسنوا الظن بالله، كما في الحديث: (أنا عند ظنِّ عبدي، وأنا مع عبدي إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه).

حديثنا أيها الإخوة عن الشباب، والشباب والله هم نعمة أو نقمة، هم مصيبة أو طامة أو خيرات تتدفق، أو أشجار تزهر وثمرات تعطي عطاءً طيباً في كل زمان ومكان.

الشباب إما بلاء على الأمم وإما دفاع وحصن منيع عن الأمم، وذلك بقدر ما يلتفت إليه الشباب، وبقدر ما يعتني به الشباب، وبحسب ما يتربى عليه الشباب، فإن تربوا على خير وجدت خيراً، وإن تربوا على غفلة وجدت غفلة، وإن تربوا على لهو وجدت لهواً.

أيها الشاب: أخاطب كل واحد فيكم الآن، وليس الشاب هو من كان في العشرين أو في الثلاثين، بل حتى أهل الأربعين، ومن شاب بدنه فإن عقله لا يزال شاباً نشيطاً بإذن الله في طاعة الله سبحانه وتعالى، أقول: أيها الشاب من أنت؟

أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سرورا

فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

أبدأ بكم بالمعاد قبل البداية، وبالنهاية قبل الانطلاقة، أيها الشاب من أنت وقت البداية، ومن أنت وقت النهاية؟! كل واحد منكم نزل من بطن أمه وهو يبكي، أم أن أحدكم نزل من بطن أمه وهو يخطب، أو أن أحدكم نزل من بطن أمه وهو يضحك؟ لا، كل واحد منكم نزل من بطن أمه وهو يبكي.

فالسؤال الآن: نزلت من بطن أمك إلى الدنيا وأنت تبكي، فإذا نزلت من بطن الدنيا إلى القبر فهل ستنزل ضاحكاً، أم ستنزل باكياً متأسفاً على المعاصي والمعازف والملاهي والفواحش والسيئات التي اقترفتها وأصررت عليها واستمريت على فعلها؟ أخي أيها الشاب: الله جل وعلا خلقك في أحسن تقويم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين:١ - ٢] يقسم الله بهذه جميعاً {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤].

والله جل وعلا كرمك وجعل لك منزلة تفوق بها سائر البهائم فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:٧٠].

والله جل وعلا على لسان نبيه جعل حرمة عظيمة لدمك، وحرمة لعرضك، وحرمة لمالك، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فقال: (ما أعظم حرمتك عند الله! وإن المسلم أعظم حرمة منك عند الله جل وعلا) الكعبة المشرفة أول بيت وضع للناس! حرمتك أيها الشاب ومنزلتك وعصمة دمك ومالك وعرضك بمنزلة تفوق منزلة الكعبة عند الله جل وعلا، لكن متى؟ إذا كنت عبداً لله!! أما إذا كنت عبداً للهوى، وللشيطان، وللأفلام، وللمسلسلات، وللملاهي، وللأغاني، ولسهرات الليل، ولكل معصية فلست كذلك؛ لأن الله جل وعلا ذكر شأن الإنسان في القرآن على أحوال، فتارة يذكر الإنسان بأنه مكرم، وتارة يذكر بأنه عزيز، وتارة يذكر بأنه في منزلة عالية، وتارة يذكر أنه في الحضيض بل أقل درجة من البهائم، قال تعالى في شأن الكفار ومن أعرض عن ذكره: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤] وقال تعالى في شأن من أعرض عن ذكر الله وترك آيات الله وانسلخ منها: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:١٧٦].

فأنت أيها الإنسان إما أن تكون مثلاً لأعلى الأمور وأَجَلَّها وأرفعها منزلة، وإما أن تكون مثلاً لأهونها وأقلها مكانة، أنت إما نعمة أو نقمة:

دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر