للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرقي خاضع للدين]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.

واعلموا أن خيرَ الكلام كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.

معاشر المؤمنين: تأملوا قول الله جل وعلا في الآية السالف ذكرها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:٣٢] لا تخضعن بالقول: لا تتدللن بالقول, لا تتكسرن بالقول، لماذا؟ {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:٣٢].

يكون الجواب على قدر السؤال، يكون الكلام بقدر الحاجة، من غير انكسار أو تدلل، وإننا -والله- لنستحي أن نطلب -مثلاً- واحداً ممن لنا به حاجة -وأنتم ترون هذا- فإذ بك تجد من يرد عليك، إما فتاة أو امرأة تتكسر في صوتها، أو تتغنج في لحن عبارتها، وما الحاجة إلى هذا؟! وما الداعي إلى ذلك؟! أما طائفة من البشر، فيظنون أن هذا من علامات الرقي، ومن علامات التمدن، ومن علامات الحضارة، أن ترد الفتاة بصوت كله نعومة، وما هذه نعومة، بل هي خشونة المعصية بداية شرها بداية دخول المرض في القلب المريض.

إن مئات من الآذان بل آلافاً لَمَريضة جداً.

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا

يتلذذ بعضهم بهذا الخطاب، فلا يجد بُداً من أن يتفنن في السؤال، ويطرح ألواناً من الأسئلة وأنواعاً من الاستفسارات، لا حاجة له -والله- بها، وإنما هو يريد مزيداً من السماع، مزيداً من الكلام، مزيداً من العرض، وهذا هو أول خيوط المعصية، وأول بداياتها.

يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:٣٢].

عباد الله: لم يقل الله: ولا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢]؛ لأنه لا يمكن أن يقع أحدٌ في الزنا مباشرة، لا يمكن أن يوجد رجل فيرفع ثيابه على امرأة لكي يزني بها من أول وهلة؛ قد يسبق الزنا إما مكالمة، وإما نظرة، وإما اتصال، وإما وقوف وانتظار ونظرات.

خدعوها بقولهم: حسناءُ والغواني يغرهن الثناءُ

حينما يبدأ بعضهم بهذا الاتصال قد يطرح سؤالاً ويجيب عليه بنفسه، ويمدح هذه المسكينة، والمرأة ضعيفة، والفتاة هزيلة، عند ذلك تنكسر وتذوب لمديح هذا الفاجر، ثم بعد ذلك يبدأ ليبني طوب مصيبته، ويبني جدار معصيته على هذه العبارات، وعلى هذه الكلمات، وعلى هذه النظرات.

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ

عباد الله! من هنا نكشف سر قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢]؛ لأن الزنا يكون قرباناً، يكون خطوات، يكون خطوة تليها خطوة، فإذا نجحت الأولى تقدم المجرم إلى الثانية، وإذا استعصت الثانية أطال المكوث فيها طويلاً حتى يذلل صعوبة وجدها أمامه، وينتقل إلى الثالثة، وهَلُمَّ جراً، وكل هذه المعاصي، وكل هذه المصائب مبدؤها من الصغائر التي نتساهل ونتهاون بها، ونعد أن من المرونة في الدين، وأن من المرونة في العلاقات أن لا ندقق في هذه الصغائر، وأن لا نهتم بها، وألا نلقي لها جانباً، لا.

خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر ضِ الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى

ويقول الآخر:

كل المصائب مبدؤها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ!

يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضررِ

ونقول نحن أيضاً:

كم (كلمة) فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ؟!

يسر (مسمعه) ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضررِ