للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضحية صهيب ومصعب]

معاشر المؤمنين! أسوق هذه المقدمة لأمهد لسؤال أطرحه الآن بين أيديكم، وأقول: إن التضحية هي أساس عزة الأمة، ورفعة الهمة، وعلو الدين، وانتشار الدعوة والعقيدة، فما حضنا من هذه التضحية؟ وما دورنا في هذه التضحية؟ وما بذلنا وعطاؤنا في هذه التضحية التي رأينا أروع المثل، وأجل الصور، وأجمل المشاهد لها في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ تعلمون أن نبينا وجيهٌ في قومه، بل من أشرف العرب أرومة، ومع ذلك يوضع سلى الجزور على ظهره، ويوضع الشوك في طريقه، فيضحي بهذه ويقبل المتاعب في سبيل دعوته، تعلمون أنه صلى الله عليه وسلم يحب مكة حباً شديداً، ومع ذلك خرج منها، وهو يقول: (والله إنك لأحب الديار إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك، ما خرجت).

أنت إلى الخارج أخرجتني لولاك هذا العام لم أخرج

يدع هذه البلاد والأطلال والعشائر والأقارب، والمال والأواصر مودعاً مكة مهاجراً، عليه من ربه نور وهداية، وعصمة وحافظ، حتى يبلغ المدينة صلى الله عليه وسلم، فيضرب المثل الأروع في التضحية، فيلحقه أصحابه، صهيب الرومي لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، ومضحياً بالأهل والمال والموطن والبيت والمنزل، فتلحقه قريش، قالوا: يا صهيب! ألم تأتنا فقيراً فغنيت بنا؟ فالتفت إليهم ذلك الجهبذ رضي الله عنه، قال: يا معشر قريش! تعلمون أني أنبلكم بالقوس والسهم، ومن لحق بي لا يخطئ السهم قلبه، ولكن إن شئتم شيئاً فأخبروني؟ قالوا: نريد مالك، قال: وإن دللتكم على مالي تتركوني؟ قالوا: نعم.

قال: هو خلف الحائط في ضيعة بني فلان، فذهبوا وأخذوا ماله وتركوه يهاجر لله وفي سبيل الله.

فلما قدم صهيب على النبي صلى الله عليه وسلم، نظر إليه المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وقال: (ربح البيع أبا صهيب) باع المال والمسكن والموطن لله جل وعلا، قد بعتها لله والله اشترى.

هكذا ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة، تضحية لإقامة الدين، إن صهيباً يوم أن أراد الهجرة، فوقفت له قريش، لم يقل: ما ظننا أن الأمر فيه خسارة ومخاطرة، وأننا سنخرج فقراء عراة مساكين من أرضنا لأجل محمد ودولته ودعوته، بل قال: إن دللتكم على مالي تتركوني؟ لأنه يعلم أن همته أعلى، وهمتهم أخس وأدنى، فدلهم على ما يرغبون من حطام الدنيا ومتاعها الزائل.

وكان مصعب بن عمير أجمل قريش، وأنداهم، وأعطرهم، وأطيبهم، وأترفهم دلالاً، فلما خالط الإيمان بشاشة قلبه، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، بقي مطرقاًَ، جاءت أمه وقالت: يا مصعب! أتريد زوجة حسناء أشغلت بالك؟ شتان بين هم أمه وهم ذلك البطل، لم تعلم أن همه أن يلحق بنبيه، وأن يكون جندياً من جنود دعوته، ولما علموا أن الأمر هكذا، كفر بالطواغيت، وإيمان بالربوبية، كفر بهذه المشاهد والمظاهر والأوثان، وإيمان بالسنة والعقيدة والدعوة.

قالوا: تحرم من نعيمك ومن ترفك، وما أنت فيه؟ فقدمها وبذلها لله، فلبس أخشن اللباس، وبقي زاهداً في ذلك كله، حتى إنه رضي الله عنه لما استشهد لم يجدوا ما يكفنونه به، فكفن بعباءة إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، وكان من أعطر وأثرى وأجمل وأترف شباب قريش، لماذا ضحيت بهذا يا مصعب بن عمير؟ كي تكون أول سفير للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة، ومن أوائل المعلمين لهم، ضحى بذلك كله، طلباً لما هو خير منه أجمع، ألا وهو الجنة.