للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علوم انتشرت بعد وفاة أصحابها]

قيل للإمام مالك بن أنس رحمه الله قيل له لما صنف الموطأ: كم من عالمٍ ألف توطئة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما كان لله بقي، فإذا نال طالب العلم توفيقاً بإخلاص واجتهاد، وأراد بعلمه وتأليفه وجه الله، نفع الله بعلمه وبارك في أثره من بعده، حتى أننا في هذه الدنيا لا يكاد يمر يوم إلا وكثير من الخلق لا يحصيهم إلا الله، في عصرنا هذا، في أيامنا هذه يقلبون كتباً -ونحن في القرن الخامس عشر- يقلبون كتباً لأقوام ماتوا في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس، كم بيننا وبينهم من مئات السنين؟! وما الذي جعل هذه الآثار من مؤلفات وكتب وغيرها تقفز على حواجز الزمن، وتتخطى حواجز التاريخ، لتصل من قرونهم إلى قروننا؟ فنستفتح الحديث بعد حمد الله والصلاة والسلام على نبيه بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة في أول مطالعاتنا وآخرها، في أول بحوثنا وختامها، ما ذاك إلا لفضل العلم.

هل سمعتم أقواماً في المساجد أو في المجامع يقولون: قال التاجر الفلاني رحمه الله، قال الثري الفلان رحمه الله، قال ذلك الذي نال منصباً رحمه الله؟ ما أندر ما يذكر أولئك! مع ما كانوا عليه من الأموال والثروات والمناصب والرئاسات إلا من حكم فعدل، وملك فأعطى، وعلم فعمل، وجاهد فثبت، وتعبد فكابد الليل والنهار.

فحسبك خمسةٌ يبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة

أقول يا عباد الله: إننا لنلحظ ونرى أننا في كل صباح ومساء، وكل غدو ورواح ندعو لأولئك العلماء مع أنه لا صلة في القرابة بيننا وبينهم بقرابة النسب أو العصبة إلا قرابة التقوى ومحبة الدين والأخوة في الله عز وجل.

فيا أيها العقلاء! اجتهدوا في أن تبقى لكم أعمال بعد موتكم ألا وإن خيرها -كما قال صلى الله عليه وسلم- أن يترك العبد علماً نافعاً، علماً ينتفع به.

وفي المقابل أولئك الذين تركوا مؤلفات ضلوا بها وأضلوا عن سواء السبيل، الذين دعوا إلى البعث والعلمانية، الذين دعوا إلى إبعاد الدين عن الحياة، الذين دعوا إلى الربا يحللونه بمختلف الأساليب والوسائل، الذين دعوا إلى الوقوع في المنكرات، الذين دعوا إلى غشيان المحرمات يسمونها بغير اسمها، يحللونها، يتمحلون الأقوال، ويبحثون عن غرائب الشواذ من الآراء، أولئك -أيضاً- عليهم وزر ما كتبوا ومن أوزار الذين يضلونهم بسبب ما تركوه من هذه المؤلفات، فالعاقل يترك بعده علماً ينفعه بإذن الله عز وجل.

وكم كنت أردد ما رأيته بأم عيني ونحن ذات مرة في الصين الكبرى التي يبلغ سكانها من الوثنيين والشيوعيين ما يزيد على المليار نسمة، إذ بنا نجد في طريق من الطرقات في شارع من الشوارع بيتاً صغيراً يسكنه عالم من علماء المسلمين صيني عجوز وهو يدرس في مكانه المتواضع، وقد أسدل سترة بين مقدمة هذا المكان ومؤخرته ليكون حاجزاً بين البنين والبنات، إذ به يدرس الأصول الثلاثة وكشف الشبهات للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إن الشيخ قد توفي عام (١٢٠٦هـ) وذلك المشهد الذي رأيناه من ذلك العالم الصيني الشيخ الكبير يدرس عام (١٤١٣هـ) كم بين تاريخ وفاته رحمه الله وبين هذا المشهد الغريب العجيب؟ لا قرابة ولا معرفة ولا نسب إلا بالتقوى والمحبة في الله، وما خطر على قلب الشيخ/ محمد وهو في زمن لم تعرف فيه المطابع بتطورها ولا أجهزة الفاكس ولا الرسائل الهاتفية ولا البريد السريع ولا وسائل النقل السريعة، هل خطر بباله وهو يؤلف هذا في الدرعية أنه سيقرأ ويدرس بعد مائتي سنة أو بعد ثلاثمائة سنة في الصين؟! في بلاد الشيوعية؟! في البلاد التي تقول: لا إله والحياة مادة؟! نعم، رحم الله الإمام مالك حين قال: ما كان لله بقي.

كم بارك الله لقلبٍ فانتفع والله إن بارك في شيءٍ نفع

لقد بارك الله في تلك الرسائل الصغيرة في حجمها، الجليلة في قدرها، فشرقت وغربت، لتنقذ الأمة من ظلمات الوثنية، ومن تخبطات الشرك وما ينافي التوحيد.