للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فوائد الصبر على المصائب]

الحمد لله الواحد الأحد على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واتقوا سخط ربكم فإن الأقدام والجسوم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

أيها الأحبة في الله: من نزلت به مصيبة أو عظمت في نفسه فليصبر، وليتذكر هذه الأمور واحداً بعد الآخر، وسيجد بعد ذلك أن المحنة منحة له من الله جل وعلا، وسيدرك أن الله وحده لا شريك له، هو المحمود في السراء والضراء، وهو أرحم الراحمين: الأول: أن المصيبة تدفعه إلى محاسبة نفسه، لأنها بما كسبت يداه والله يعفو عن كثير.

الثاني: أن الله يجازيه بها تكفيراً لذنوبه، وتطهيراً له من السيئات، ولنعلم أن عظم الجزاء مع عظيم البلاء.

الثالث: أن العبد إذا صبر فاز بوعد الله للصابرين، وهو أن يجزيهم الله أجرهم بغير حساب.

الرابع: أن يعلم العبد أن الجزع والضجر، لا يرد من قدر الله شيئاً، وأن يعلم أن الرضا والحمد لله يخفف أثر المصيبة الواقعة، ويدفع عنه الدعاء غيرها من المصائب وما هو أعظم منها.

الخامس: أن الرضا والصبر على المصائب يدفع عن المسلم شماتة الحساد.

كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الحساد

السادس: أن يتذكر المسلم عند حلول المصيبة، أن هذه الدنيا ليست بدار نعيم يطمئن لها، ويعلم عند ذلك أن الراحة والسعادة التامة في دار النعيم، دار الخلود الأبدي في الجنة، التي أعدها الله لعباده المتقين، فيدفعهم ذلك إلى مزيد من البذل والمجاهدة لنفسه حتى يصل بها إلى مرضاة الله في جنانه، في تلك الدار التي لا يكدر صفوها غصص المصائب والآلام، فلا تجزع من المصيبة في دار المصائب والآلام وهي الدنيا، يقول عنها القائل:

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

السابع: أنه لو سلم أحد من المصيبة والبلية، لسلم من ذلك صفوة خلق الله في أرضه، الأنبياء والمرسلون، ولك في نبيك أسوة حسنة، فيما لقي من العذاب والابتلاء، من قومه وعشيرته، وسائر الجاحدين المعاندين له، فإذا علمت ذلك فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وليكن لك في صبر نبيك أسوة حسنة.

الثامن: تذكر مصيبة من هو أعظم منك فيما ابتلوا به، فإن كنت مصاباً بشيء يسير فإن غيرك قد أصيب بمصيبة أعظم، وإن كنت مصاباً في جارحة معينة، فإن غيرك قد أصيب ببلية عظيمة في نفسه أو في ولده، وإن كنت مصاباً بخسارة في مالك، فإن غيرك قد أصيب في ماله وولده ونفسه، إذاً فالمصائب يخفف بعضها بعضاً، وإذا تأملت مصيبة غيرك هانت عليك مصيبتك.

التاسع: وهو أولها: أن تحمد الله في هذه المصيبة أنها لم تكن في الدين؛ لأن مصيبة الدين عظيمة:

وكل كسر فإن الله يجبره وما لكسر قناة الدين جبران

العاشر: أن هذه المصيبة لم تكن أعظم، فثق -أيها المسلم- بوعد الله وجزائه ولا تيئس ولا تقنط، فالفرج بعد الشدة وبعد العسر يسر، بإذن الله ورحمته، فاحمد الله على كل حال:

إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق بما به الصدر الرحيب

وأوطنت المكاره واطمأنت وأرست في مكامنها الخطوب

ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب

أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب

فكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها فرج قريب

ويقول الآخر:

ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج

فمن ذا الذي يجزع ويضجر، ويسخط لقضاء الله وقدره عند حلول المصيبة، لا والله إن المؤمن إذا وقعت به المصيبة، يتذكر قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦].

والصبر على المصائب كما علمتم -أيها الإخوة- أعظم وأنفع علاج في هذه الدنيا، التي هي بطبيعتها دار لا تصفو لأحد، فمن صفا له الأمر لا بد أن يتكدر عليه في ولده، أو في ماله، أو فراق أحبابه، أو سقمٍ في بدنه، أو مصيبة في أي جانب ممن حوله، فليجتهد في دارٍ لا مصائب فيها، وليجتهد للعمل في دار يجتمع أحبابها ولا يفترقون، ويدوم نعيمها ولا ينقطع، وتصفو لذتها ولا تتكدر بشيء من موت أو هرم أو سقم.

أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل تلك الدار، التي رضي عن أهلها وجزاهم بمرضاته أوفر الجزاء.

اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين، اللهم اجعلنا في السراء من الشاكرين، وفي الضراء من الصابرين، ولا تجعلنا من القانطين اليائسين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم أصلح إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته وقرب له من علمت فيه خيراً له، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله بمن أحببته، واجمع شمله بإخوانه، ووحد صفهم واجمع شملهم ووحد كلمتهم، ولا تفرح علينا وعليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مكسوراً إلا جبرته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اختم بالشهادة آجالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النيران منقلبنا ومثوانا، لا إله إلا أنت الحليم العظيم رب العرش العظيم، رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم، أنت أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، فتلطف بنا فيم حل بنا، وأعنا ولا تعن علينا، وأكرمنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وارفعنا ولا تخذلنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦].

اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وراض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع موتى المسلمين، الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم وسع على أهل القبور قبورهم، ونور على أهل اللحود لحودهم، وافتح لهم أبواباً إلى الجنان، وأعنا على ما أعنتهم عليه بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:٩٠] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.