للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه]

إن المقيم على الذنب والمصر على المعصية لفي أشد الحاجة إلى ما يخوفه ويزجره عن التمادي، ويردعه عن الوقوع في الغفلة والشهوات المحرمة، ومن خاف ربه وخشي الله حق خشيته ما تجرأ على معصيته، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشد الأمة خشية لربه يقول: (أنا أعرفكم بالله، وأشدكم خشية له) ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] فمن كملت معرفته بربه ظهر خوفه من الله، وأثَّر ذلك على قلبه، ثم انعكس على جوارحه بكفها عن المعاصي، وإلزامها بالطاعات، تكفيراً لما سلف واستعداداً لما سيأتي.

قال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة) ولكن اعلموا يا عباد الله! أن البكاء وحده ليس دليلاً على الخوف من الله، لكن حقيقة الخوف ترك العبد ما حرم ربه مع قدرته عليه، وإذا بلغ الخوف بالمؤمن هذه الدرجة انقمعت شهوته، وتكدرت لذته، فتصير المعصية المحبوبة للنفس مكروهة يبغضها القلب، وتكف عنها الجوارح، وكلما تمكن الخوف من الله في قلب المؤمن زادت مراقبة العبد ومحاسبته لنفسه.

عباد الله! إن كثيراً من المسلمين لا يخافون الله حق خوفه، ولا يخشونه حق خشيته، أيغرهم إمهاله لهم؟ أم يظنون أن الله غافل عما يعملون سبحانه جل شأنه؟ وبعضهم إذا وقع في معصية ولم تصبه عقوبتها، ولم ير أثرها في الحال؛ يظن أن المعصية بعد ذلك لا تضره، وهو بفعله هذا على حد قول القائل:

إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار

وقد نسي ذلك المسكين أن بعض الذنوب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- مما لا يرى العبد أثره وشؤمه إلا بعد عشر سنين أو عشرين سنة أو أربعين سنة، ترى بعضاً منهم لا يخشى ولا يخاف عاقبة السيئة وما اقترف من الخطيئة، والبعض يتقلب في لهوه وغفلته كأنما ضمنت له الجنة وقدمت بين يديه الرحمة والمغفرة، فأين هو من جيل الصحابة الراشدين والسلف الصالحين الذين بلغوا أعلى مراتب الخوف والخشية من ربهم؛ وما ذاك إلا لكمال معرفتهم بخالقهم.

معاشر المؤمنين: تأملوا كتاب الله تروا كيف كان الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، كيف كانوا يخافون من الله، كيف كانوا يخافون من خالقهم، يقول الله جل وعلا في وصفهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٥٠].

أما نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً وريحاً عرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأراك إذا رأيته عرفت الكراهة في وجهك! فقال: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) أخرجاه في الصحيحين.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أما والله لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تندبون أنفسكم وتجأرون إلى الله).