للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التعصب الأعمى]

أيها الأحبة: إن أشد ما يطمس العقل البشري هو التعصب الجامد المظلم الذي يحبس صاحبه في قمقم قديم كان عليه الآباء أو الواقع الذي عليه الأكثرية والرؤساء، فلا تعتبر بالأكثرية، كما أن الآباء والأجداد ليسوا بالضرورة على هدى وصواب، فكذلك الكثرة ليست بالضرورة على هدى وصواب، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:١١٦] ويخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنهم ضلال، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:٧١] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣] وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:١١٦].

قد يقول قائل: نحن الآن على حق، ونحن في كثرة من الحق والحمد لله، إذاً هذه الكثرة لا يعتد بها؟ أقول: لا تقس المسألة بحدود المملكة التي أنت فيها، قس الواقع كله في الداخل والخارج في العالم، في قارة آسيا وأمريكا وأوروبا وأفريقيا، انظر إلى أكثر أهل الأرض وستعرف من هم الأكثرية، فلا تعتد بهم في أي حال من الأحوال.

وينبغي للعاقل ألا يكون إمعة كما جاء في الأثر: [لا يكون أحدكم إمعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت] وإنما ينبغي للإنسان أن يحسن إذا أحسنوا وإذا أساءوا فعليه أن يجتنب الإساءة.

أيها الأحبة: ينبغي للعاقل ألا يغتر بكثرة أهل الضلالة، وعليك ألا تكون ممن قال فيهم القائل:

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

بل ينبغي للإنسان أن يتميز، وإن كنت مثل الناس إنساناً لكن عليك بالتميز:

فإن ضل الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال

أي: ليس ضالاً، ولكن تتميز عنهم بالهداية بإذن الله: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:١٠٠].

وينبغي لمن يحترم عقله ويقول إنه مكرم بهذا العقل والفكر إلا يتعصب للباطل.

إن قريشاً قد ضلت ضلالاً بعيداً مع تعصبها على باطلها، فمع معرفتها للحق لم تدع الله أن تهتدي إليه وإنما قالت منطقاً أعوج كما بيَّن عز وجل في حال أولئك الذين قادهم التعصب إلى أن يسألوا الله العذاب، هذا التعصب يعمي المرء ويصمه ويجعل عقله كأنه منحوت من الحجر الأصم، انظر كيف فعل التعصب بكفرة مكة الذين قالوا في عناد غريب: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢] من شدة التعصب لم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا، قالوا: إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة، ولو عقل القوم لقالوا: إن كان هذا هو الحق فاجعلنا مهتدين وإليه هداة داعين، أو اجعلنا من أنصاره، ولكن صدق الله العظيم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٧١].

وحكى القرآن حالهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:٥] وينبغي للمسلم إذا سمع الحق أن ينقاد إليه وأن يدع قول الآباء والأجداد والأعراف والتقاليد، فإن المجادلة بعد بيان الحق ووضوحه مشاقة لله ورسوله، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:١١٥] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٣٢].

فالعاقل لا يجادل في باطل، وإنما ينظر بعقله مهتدياً بوحي من عند الله عز وجل، فإن وجدت الحق فيما دعيت إليه فاقبل ولا حاجة أن تتعصب على الباطل وتموت عليه، وتبعث عليه وتحشر مع أهله، وتعبد ربك على باطل.