للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمور نحتاج إلى التفكر فيها]

فيا معاشر المؤمنين! الصبر الصبر فإنما هي أيام وكل يعرف مكانه، وكل يعرف مرتبته، وكل يرى منزلته، وكل يرى عاقبة عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:١٩٦] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:٢٠٥ - ٢٠٧] كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه جالساً ذات يوم على عرش الخلافة يقرأ القرآن فلما بلغ هذه الآية {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:٢٠٥ - ٢٠٧] نزل من عرش الخلافة وكرسيها، وأخذ بلحيته يهزها ويقول: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:٢٠٧].

فليست هذه الدنيا بشيء تسوؤك حقبةً وتسر وقتا

وغايتها إذا فكرت فيها كفيئك أو كحلمك إذ حلمتا

سجنت بها وأنت لها محب فكيف تحب ما فيه سجنتا

وتطعمك الطعام وعن قريب ستطعم منك ما فيها طعمتا

وتشهد كل يوم دفن خل كأنك لا تراد لما شهدتا

ولم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجئت لما خلقتا

وإن هدمت فزدها أنت هدماً وحصن أمر دينك ما استطعتا

ولا تحزن على ما فات منها إذا ما أنت في أخراك فزتا

فليس بنافع ما نلت منها من الفاني إذ الباقي حرمتا

وتذكر مواقف يشيب لها الولدان، تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، الشمس تكور، النجوم تنكدر، السماء تنفطر، البحار تسجر، الجبال تتطاير كالعهن المنفوش، يجعلها الله قاعاً صفصفاً كل ذلك من الأهوال التي بين أيدينا سنراها ونعتقدها ونؤمن بها حق اليقين، أفلا يليق بواحد منا تأمل ذلك أن يقلع عن غفلته وأن يتدبر لنهايته؟ فيا أيها الأحبة! حري بنا أن نعد أنفسنا لما نحن قادمون عليه، يقول إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس! أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً.

قلت: فأنت في الأمنية فاعملي، فأنت في الأمنية فاعملي.

وخف من سوء الخاتمة، وأعد لهذا الأمر عدته، لقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفاً من الذنوب؟ فأخذ جفنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذا وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة.

قال ابن القيم: وهو من أعظم الفقه؛ أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة.

أفي دار الخراب تظل تبني وتعمر ما لعمران خلقتا

وما تركت لك الأيام عذراً لقد وعظتك لكن ما اتعظتا

تنادى للرحيل بكل حين وتعلن إنما المقصود أنتا

وتسمعك النداء وأنت لاه عن الداعي كأنك ما سمعتا

وتعلم أنه سفر بعيد وعن إعداد زاد قد غفلتا

تنام وطالب الأيام ساع وراءك لا ينام فكيف نمتا

معائب هذه الدنيا كثير وأنت على محبتها طبعتا

يضيع العمر في لعب ولهو ولو أعطيت عقلاً ما لعبتا

فما بعد الممات سوى جحيم لعاص أو نعيم إن أطعتا

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب أن يوقظنا وإياكم من هذه الغفلة، وألا يجعلنا من الغافلين، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، ومرداً إليك غير مخز ولا فاضح.

اللهم استعملنا في طاعتك، وتوفنا على مرضاتك، إلهي وربي وخالقي لا تدع لنا جميعاً في هذا المقام وفي هذا المسجد؛ ذكوراً وإناثاً، رجالاً ونساءً ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته.