للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الموت وفجأته]

كثيراً وكثيراً ما سمعنا بشبابٍ كانوا في غفلة، وفي بعد وتسلط، وقسوة وجفاء، كانوا في غلظة وقطيعةٍ وعقوق، بعضهم يشهد ويقر على نفسه، يقول: ما ركعتها في المسجد مع الجماعة، وبعضهم يقول: ما جانبت كأس الخمر مرة، وبعضهم يقول: ما سافرت إلا واقعتُ الفاحشة؛ فإذ به في يومٍ من الأيام تجده باكياً خاشعاً ساجداً راكعاً، سبحان مقلب القلوب والأبصار! ما الذي غيّر هذا؟ ما الذي غيّر أحواله؟ إنه الله جل وعلا، ولكن كيف السبب؟ ما هو السبيل؟ وأي طريقةٍ وصلت إلى قلبه؟ قدَّر الله على الكثيرين منهم أن يقفوا مشهداً ماثلاً حقيقياً لا محيص ولا مناص عنه، قدَّر الله للكثير منهم أن يقفوا أمام حقيقة الموت، وهم يشهدون بأم أعينهم وأمهات أبصارهم، يشهدون صديقاً، يشهدون حبيباً، يشهدون قريباً، ولا ينفع طبيب ولا يجدي نحيب.

حدثني أحدهم، قال: كنت مسافراً في دراسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكان شأني شأن كثيرٍ من الشباب الذين يقضون الليل في الملهى والمساء في المرقص والعبث الذي تعنيه كلمة العبث بأبعادها ومعانيها، وذات يوم كنا راجعين من ملهانا وعبثنا تقدم بعضنا إلى السكن، أما واحدٌ منا فلقد استبطأناه ثم قلنا: لعله يأتي بعد سويعة، أو بعد ساعة، أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما أتى، فنزلنا نبحث يميناً وشمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لا بد أن يكون في الكراج أو في الموقف الذي يجعل للسيارة تحت البناء، فدخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة فوجدنا السيارة لا زال محركها يدور، وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة، وهو في مكانه والموسيقى الهادئة لا زالت منذ آخر الليل حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن، فتحنا، نادينا، تكلمنا: يا أخانا! يا صاحبنا! فإذا به قد انقطع عن الدنيا منذ اللحظة التي وقفت سيارته في ذلك الكراج.

هذه نهاية أشعلت في قلوب الكثيرين من أولئك الشباب يقظةً وغيرةً وعودةً وإنابةً وتوبةً وخضوعاً إلى الله، فعادوا إلى الله تائبين، ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها، بل أنابوا واستكانوا، وعادوا لربهم، أسأل الله أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه، وأن يتجاوز عنا وعنه.

هذه واحدة والأخرى ليس لها إلا أيامٌ قليلة، سمعتها من أحد إخواني في الله، يقول: كنت كغيري من سائر الشباب، وفي ليلة من الليالي التي كنت أسهر فيها مع أحبابي وأصدقائي ومن بينهم واحدٌ من الأحبة، ومن بينهم أعز حبيبٍ إليَّ، أعز صديقٍ إلى قلبي، وأقرب قريبٍ إلى فؤادي، إذ به فجأةً يصرخ: فلان! أدركني، قلت: ما الذي بك؟ قال: إني أحس بشيءٍ في قلبي، قال: فدنوت منه، فإذا هو يتلبط ويتقلب ويقول: أسرع لي بطبيب، فناديت واتصلت بمن يحضر لنا طبيباً، وكانت الفترة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة أو عشرين دقيقة، ونحن ننتظر وصول الطبيب، وفي تلك الدقائق وهو يقول: إني أحس بالفراق إنها النهاية إنها الخاتمة سأفارق الدنيا سأترك طفلي سأترك زوجتي سأفارقكم ستضعونني في كذا ستتركونني وحدي، وأخذ يمر عليه سجل ذكرياته، وأخذت تتقلب أمامه صحائف أفعاله، قال وأنا أنظر إليه، وكلي وحشةٌ ودهشة، وكلي عجبٌ وغرابة، وأنا أنتفض وهو يحاسب نفسه ويعاتب روحه وأنا والله أصبره، وأنا أشد ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي منه، فأخذت أتقلب في ذلك الموقف، وما هي إلا ست عشرة دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحه، وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضع قريبنا وصديقنا، وأعز أحبابنا، وأجل أقاربنا؛ نضعه في قبره ونواري عليه التراب، أحب الأحباب هو الذي منا يتقن نفس اللحد ألا يتسرب منه ذرة هواء، أو إشعاع نور، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه وانصرفنا.