للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طلب العلم الشرعي ومذاكرته]

أيها الأحبة! واعلموا -أيضا- أن من أسباب انشراح الصدر: طلب العلم ومذاكرته والاجتهاد في تحصيله، يقول ابن القيم رحمه الله عن العلم: فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يُورث الصدر الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً، انتهى كلامه رحمه الله.

ومما لا شك فيه أن مما يشرح الصدر كثرة المعرفة، وغزارة المادة العلمية، واتساع الثقافة، وعمق الفكرة، وبعد النظرة، وأصالة الفهم، والغوص في الدليل، ومعرفة سر المسائل، وإدراك مقاصد الأمور، واكتشاف حقائق الأشياء: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] وإن العالم رحب الصدر، واسع البال، مطمئن النفس، منشرح الفؤاد، وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله، يحكي شيئاً من سيرته في طلب العلم، يقول: فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، وهنا نصيحة أقولها للشباب وللناشئة، ولكل شاب لم يتزوج بعد، وأقولها لكل متزوج لم يعدد، وأقولها لكل متزوج لم تشغله مشاغل الذرية والزوجات، ومشاغل الحياة، أقول: إن صفاء الذهن وصفاء القلب وهمة النفس في طلب العلم قبل أن تمتلئ النفس بمشاغل القوت والولد والزوجات والبيوت.

يقول ابن الجوزي: فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابلة ما يناله من لذات العلم، وهذا رأيناه في علماء أجلاء في كبر من سنهم، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز واحد منهم، تراه أشرح الناس صدراً فيما رأينا وعرفنا مع أنه فاقد البصر وكبير سن، قد لا يجد من لذات الدنيا ما يجدها بعض الشباب، لكن ما عوضه الله به من بركة العلم، والأنس بالدعوة، والاجتهاد في نفع الخلق يساوي أضعاف أضعاف ما يجده الشباب، أو ما يفوت في الكبر والمشيب.

وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله: فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابل ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب التي كان تأمل به إدراك المطلوب.

أيها الأحبة! لله در القائل:

اهتز عند تمني وصلها طرباً ورب أمنية أحلى من الظفر

الذي يتلذذ ويطرب في طلب العلم وسعيه وسبيله وطريقه لتحصيله يجد لذة، فما بالك بمن جنى العلم وحصله وتأمله، وغاص في أسراره وبحاره، ويقول ابن الجوزي أيضا: ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبية والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه -كلام نفيس وجميل لـ ابن الجوزي - قال: ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يُقاوم.

يقول ابن الجوزي: فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟ فقلت له: أيها الجاهل تقطيع الأيدي من قبل النسوة لا وقع له عند رؤية يوسف، يذكر الآية {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:٣١] هول جمال يوسف عليه السلام، وهول لذة منظره ورؤيته، أنست كل واحدة منهن أن في يدها سكيناً قد حزت بها أناملها وسال الدم من يدها، وصدق صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من أصبح وهمه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له، ومن أصبح وهمه الآخرة تَكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته) وما طالت طريق أدت إلى صديق:

جزى الله المسير إليه خيراً وإن ترك المطايا كالمزار

يقول ابن الجوزي أيضا: ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو.

ونمضي -أيها الأحبة- مع أهل انشراح الصدر من أهل العلم، الذين علموا أن العلم نشاط النفس ومتعة الروح، هذه المتعة تُنسي طالب العلم ما يلحقه من متاعب، وتخفف عنه ما يبذله من عناء؛ لأنه يجد في العلم مرتعاً يأوي إليه ويرتاح عنده، وبذلك تقوى همته في طلب العلم، ولا يشبع منه أبداً، وهذا مصداقه ما أشار إليه الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال).

ولقد عرفت من الصالحين ممن جمع بين التجارة والعلم، وممن جمع بين التجارة والدعوة، يُقسم بالله العظيم أن لذته في درس يحضره، أو محاضرة يُلقيها، أو مسألة يتعلمها؛ ألذ في نفسه، وأوسع لفؤاده، وأشرح لقلبه من مائة أو مائتي ألف أو أكثر من ذلك يجدها في صفقة تجارة، وما ذاك إلا لأن:

زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران

أيها الأحبة! النهم في طلب العلم دافع للعمل، مغذٍ للنفس، يزكيها ويشفيها من أمراضها، ويبعدها عن كل لذة محرمة أو شهوة خبيثة، قال الإمام الماوردي: العلم عوض من كل لذة، ومغنٍ عن كل شهوة، ومن تفرد بالعلم لم توحشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة، فلا سمير كالعلم، ولا ظهير كالحلم، وما أحسن قول الشاعر:

شربت العلم كأساً بعد كأس فما نفد الشراب ولا رويت

وقد أورد الإمام ابن القيم قصة في هذا المجال عن شيخه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: حدثني شيخنا قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر عن ذلك! أي: لا أصبر عن المذاكرة والمطالعة، فقال له الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقال له شيخ الإسلام: لا أصبر عن ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، شيخ الإسلام يناظر ويحاجج الطبيب إلى علمه، أليس النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض، فقال: بلى.

قال شيخ الإسلام: فقلت له: فإن نفسي تُسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا، أي: أنت تصف لنا وصفة ودواءً ما درسناه وما عرفناه.

وختاماً في هذا الباب: إن أهل العلم هم أهل الشرف الحقيقي، وأهل العز الدائم والمنزلة العالية في الدنيا والآخرة، وهم أعلم الناس، وأحظى الناس بانشراح الصدر وكيفيته.

وأسوق قصة حُكيت عن خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله يُظهر فيها شرف العلم وانشراح الصدر في الدنيا والآخرة، وهذه القصة هي أن الحافظ ابن حجر رحمه الله خرج يوماً بتلامذته وأحبابه الذين يطيفون حوله كالهالة حول القمر، وكان آنذاك رئيساً للقضاة بـ مصر، فاعترضه في طريقة رجل يهودي في حال رثة، فقال اليهودي: قف يا ابن حجر! فوقف ابن حجر رحمه الله، فقال اليهودي: كيف تُفسر قول نبيكم؟ (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) -وهذا الحديث رواه الإمام مسلم - ثم قال اليهودي: وهأنت تراني في حال رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن.

فقال الحافظ: أنت مع تعاستك وبؤسك تُعد في جنة بالنسبة لما ينتظرك في الآخرة من العذاب الأليم إن مت كافراً، وأنا مع هذا الذي ترى إن أدخلني الله الجنة فهذا النعيم يعد سجناً بمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنان، فقال اليهودي: أكذلك يا ابن حجر؟ قال: نعم.

فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

وبذا نعلم أن السعادة كل السعادة وانشراح الصدر في العلم النافع والعمل بمقتضاه، كذا العز الدائم والرفعة في الدنيا والآخرة كلها في طلب العلم، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١].

فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحال

وقال الآخر:

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُفقر والإقدام قتال