للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فساد الأخلاق والانخلاع من الدين]

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا شبيه، ولا مثيل ولا نظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا لله تعالى حق التقوى، فلا نجاة ولا سعادة، ولا فوز ولا فلاح إلا بها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣].

أيها الأحبة في الله! كثيراً ما يشكو بعضُنا إلى بعض في المجالس والمناسبات المتعددة ما نشكو مصائب مفجعة، وحوادث مؤلمة في مجتمعاتنا، ونتفق بلا خلاف أننا في خطر، ولا نتنازع في وجوب الاهتمام والعناية؛ ولكن يبقى شيء واحد قل ما نتطرق له، ألا وهو الحديث بدقة وجُرأة وصراحة عن الأسباب بوضوح والعلاج: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥].

ولو أردنا أن نتحدث بصراحة عن سبب من أسباب الدمار في المجتمعات المعاصرة اليوم، لقلنا: إن مجتمعاتنا الصغيرة، ومجتمعاتنا الكبيرة التي غزتها رياح التغريب والانحلال، وتعاودها أعاصير الإباحية، وزلازل التخريب والفساد، فتُحدث بين الفينة والأخرى، براكين مسعورة تقذف بحممها على بعض الأسر والبيوت.

كل ذلك من نافذة لا نستطيع إغلاقها، ومن سقف لا نستطيع له سداً، إنها الحرب القادمة من الفضاء، حرب القنوات الفضائية التي هي أشد تنكيلاً، وأشد تخريباً، وأشد إفساداً من حرب الدبابات والطائرات.

إنها الحرب التي تمنح طوائف ممن تقبلوها قبولاً حسناً، تمنحهم جنسية أعدائهم، وهوية من يودون عنَتهم، ولا يألونهم خبالاً، تصيرهم عبيداً لغير خالقهم، وأتباعاً لغير قادتهم، ومنتمين لغير مناهجهم وأفكارهم وأوطانهم، الكل ينادي ويصيح: الفضاء مملوء بالصور والكلمات، والعالم أصبح قرية صغيرة، وانتقال الأفكار والسلوك والعادات والمناهج أصبح أسرع من الريح، ويقابل كل ذلك الشر الوافد من تلك القنوات تهافت عند طائفة من الذين يتسابقون أيهم يجعل من عقله وذاكرته، ويجعل من عقول أبنائه وبناته وذاكرتهم، أيهم يجعل من هذه العقول مسرحاً ومرتعاً لذلك الإعلام الوافد، والخراب القادم.

فترى بعضهم يباهي ويفاخر بعدد القنوات التي يستقبلها ذلك الجهاز والطبق دون تأمل وتبصر فيما تجنيه تلك القنوات على نفسه وزوجه وأولاده أولاً، وعلى المجتمع من حوله ثانياً من دمار وبلاء.

إن السكوت على ضرر هذه الأطباق، أو ما تُسمى بالدشوش، وإن السكوت عن نصيحة المسلمين في شرها وخطرها، ربما عُد من الخيانة، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:٢٧].

أيها الأحبة! قد نستثني طائفة ممن تعنيهم وتهمهم بعض أمور تبثها بعض تلك القنوات؛ لاعتبارات أعمالهم ومهماتهم، وهم نزر يسير، ومع ذلك فهم محاسَبون عما يسمعون ويشاهدون في حدود ما تتطلبه مسئولياتهم؛ ولكن هل نرى كل من حولنا، من هؤلاء الذين ركَّبوا هذه الأطباق التي تفتح أحضانها لغزو الشهوات والشبهات القادم من الفضاء، هل كلهم من أصحاب تلك الاهتمامات، وتلك المواقع؟ الجواب الذي لا ينازع فيه منازع: أن لا، بل السواد الأعظم ممن ركَّبوا هذه الأطباق من الذين يقول فيهم القائل:

ويقضى الأمر حين تغيب تَيْمٌ ولا يُستشهدون وهم شهودُ

أيها الأحبة! ليس الموضوع هجوماً سافراً، أو تنديداً فاضحاً بالذين ركَّبوا هذه الأطباق أو المستقبلات، إنما هو حديث: (الدين النصيحة) وإنما هو حديث من القلب إلى القلب: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:٤٦].

تعالوا إلى كلمة سواء، مستحضرين كافة قوى العقل والتدبر والاعتبار، مستبعدين كل الأهواء، ودوافع الشهوات؛ لنتساءل، ولنتواصى، ولينصح بعضنا بعضاً، فإن الدين النصيحة، وليأمر بعضُنا بعضاً بالمعروف، وينهى بعضُنا بعضاً عن المنكر، فتلك صفات المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:٧١].