للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصص متفرقة في حسن وسوء الخاتمة]

حدثني أحدهم قال: كنت مسافراً في دراسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان شأني شأن كثير من الشباب الذين يقضون الليل في الملهى، والمساء في المرقص، والعبث الذي تعنيه كلمة العبث بأبعادها ومعانيها، وذات يوم وكنا آيبين من ملهانا وعبثنا، تقدم بعضنا إلى السكن، أما واحد منا فلقد استبطأناه، ثم قلنا: لعله يأتي بعد سويعة، أو بعد ساعة، أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما أتى، فنزلنا نبحث يميناً وشمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لابد أن يكون في موقف السيارات (الكراج) تحت البناء، فدخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة فوجدنا السيارة لا زال محركها يدور، وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة وهو في مكانه، والموسيقى الهادئة لا زالت منذ آخر الليل حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن، فصحنا نادينا، تكلمنا: يا أخانا، يا صاحبنا فإذا به قد انقطع عن الدنيا منذ اللحظة التي وقفت سيارته في ذلك الكراج.

هذه نهاية أشعلت في قلوب الكثير من أولئك الشباب يقظة وغيرة، وعودة وإنابة، وتوبة وخضوعاً إلى الله، فعادوا إلى الله تائبين، ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها، بل أنابوا واستكانوا وعادوا لربهم، أسأل الله أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه، وأن يتجاوز عنا وعنه.

هذه واحدة والأخرى ليس لها إلا أيام قليلة سمعتها من أحد إخواني في الله، يقول: كنت كغيري من سائر الشباب، وفي ليلة من الليالي التي كنت أسهر فيها مع أحبابي وأصدقائي، ومن بينهم واحد من الأحبة هو أعز حبيب إلي، وأعز صديق إلى قلبي، وأقرب قريب إلى فؤادي، بينما أنا وإياه إذا به فجأة يصرخ: فلان! أدركني.

ما الذي بك؟! إني أحس بشيء في قلبي.

قال: فدنوت منه، فإذا هو يتلبط ويتقلب، ويقول: أسرع لي بطبيب!! فناديت واتصلت بمن يحضر لنا طبيباً، وكانت الفترة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة أو عشرين دقيقة ونحن ننتظر وصول الطبيب، وفي تلك الدقائق وكان يقول: إني أحس بالفراق، إنها النهاية، إنها الخاتمة، سأفارق الدنيا، سأترك طفلي، سأترك زوجتي، سأفارقكم، ستضعونني في كذا، ستتركونني وحدي.

وأخذ يمر عليه سجل ذكرياته، وأخذت تتقلب أمامه صحائف أفعاله، قال: وأنا أنظر إليه وكلي وحشة ودهشة، وكلي عجب وغرابة، وأنا أنتفض وهو يحاسب نفسه ويعاتب روحه، وأنا والله أصبره وأنا أشد ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي منه، فأخذت أتقلب في ذلك الموقف وما هي إلا ست عشرة دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحه، وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضع قريبنا وصديقنا وأعز أحبابنا وأجل أقاربنا نضعه في مثواه الأخير، ونواري عليه التراب، أحب الأحباب هو الذي يتقن من اللحد ألا يتسرب منه ذرة هواء أو إشعاع نور، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه في مثواه الأخير، وانصرفنا.

شاب من مدة ليست بالقريبة حدثني عن أحد الشباب بما تسمى بـ بانكوك، قال: لقد كان في ضلالة وبلاء، وقد كان في أمر لا يفيق من جرائه من المخدرات أو الشراب، وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات، وفي لحظة من سكره وشوق إلى عهره تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، وقد كاد يجن من تأخرها، فما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه، فلما رآها خر ساجداً لها تعظيماً، خر ساجداً لها! وما الذي تنتظرونه؟ هي السجدة الأخيرة، هي النهاية، والله ما قام من سجدته، بل أقاموه في تابوته وأرسلوه بطائرته، ودفنوه مع سائر الموتى.

أيها الأحبة: إن هذا الموت هو أخطر وأعظم وأكبر حقيقة يواجهها الشقي والسعيد، الغني والفقير، العزيز والذليل، الرفيع والحقير، ومن أجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) (ألا وإني كنت نهايتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة).

أيها الأحبة: أسوق هذه الأحداث متفرقة مختلفة وكلها تختلف من حيث الخاتمة والنهاية، لكنها في مؤدى واحد وهو الخاتمة، أي خاتمة نواجهها؟ أي نهاية نفضي إليها؟ وأي عمر يمتد بنا؟ وأي شباب نتقلب فيه حتى ننتقل منه إلى الشيخوخة ثم نتوب بعد ذلك هل ضمنا هذه الحياة؟ وهل ضمنا هذه الأعمار؟ بادروا بالتوبة، بادروا بالإنابة قبل أن يخطفكم الموت، ويخطفكم الأمل، وتمضي الملائكة بوديعة الله من أرضه إلى السماء، فتكون في أعلى عليين أو في أسفل سافلين.

إن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة لأمر خطير وعجيب وجليل جداً، جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يجهز جيشاً من الجيوش لمعركة حاسمة مع الكفار، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ كافر، فقال: (يا محمد! أرأيت إن اتبعتك، فما الذي لي وما الذي علي؟ قال: إن شهدت أن لا إله إلا الله وأني رسول الله كان لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم، فقال: ما على هذا أتبعك.

فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن غنموا فأنت معهم في الغنيمة، وإن مت فلك الجنة من الله جل وعلا، فقال ذلك الصحابي: والله ما على هذا اتبعتك -أي: ما اتبعتك لأجل الغنيمة- وإنما اتبعتك على أن أغزو معك فأرمى بسهم من هاهنا، وأشار إلى نحره ويخرج السهم من هاهنا وأشار إلى قفاه) ثم دخل المعركة وقاتل وأبلى بلاء حسناً، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمي بسهم دخل في نحره وخرج من قفاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدق الله فصدقه، بخ بخ! عمل قليلاً ونال كثيراً) دخل الجنة وما سجد لله سجدة.

انظروا الخاتمة، انظروا النهاية، انظروا الخاتمة وتأملوها واعتبروا بها، أسأل الله أن يحسن لي ولكم الخاتمة، وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يتوفانا على التوحيد شهداء.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.