للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حث النبي صلى الله عليه وسلم على النكاح وذمه للرهبنة]

أيها الأحبة في الله! الحديث عن النكاح لا شك أن مقاصده عائدةٌ إلى تحقيق وإشباع الغرائز الموجودة في النفس البشرية، وما جاء النكاح لإشباع الغرائز فقط، وإنما لتوظيف هذا الإشباع فيما يعود على المجتمع بالتناسل والتكاثر لتكوين أمةٍ محمودة نافعة للبشرية.

لهذا شرع لنكاح، ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا -ولم يجعل هذا الأمر مطلقاً بل قال-: فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) إذاً إذا نوقش النكاح أو الزواج فلينظر إليه من جانب تحقيق رغبات النفس، ولينظر إليه من جانب نفع المجتمع، ولينظر إليه من جانب نفع الأمة قاطبة، إذ ما شرعت الشرائع لتحقيق مقاصد شخصيةٍ بحتة، بل إن من سمو وعدل ورقي هذا الدين أن أحكامه وتشريعاته جاءت لتستجيب لحاجات النفس، ومن ثم لتصب فيما ينفع هذا المجتمع.

فأول ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج، وذم الرهبنة جاء نفرٌ إلى بيته صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عبادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلما سألوا وأجيبوا كأنهم تقالوها، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حينها موجوداً، فقال بعضهم: وماذا عليه؛ فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: فأما أنا فأقوم الليل ولا أذوق النوم، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر اشتد غضبه، وبلغ الغضب مبلغاً عظيماً إلى حد أنه صعد المنبر وجُمع الناس له، وقال: (ما بال أقوامٍ يستنون بغير سنتي، أما أنا فآكل اللحم، وأقوم الليل وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وقال صلى الله عليه وسلم: (حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء -هذا من الدنيا أما قرة العين- وجعلت قرة عيني في الصلاة) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسيلماً كثيراً.

وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! -وخص الشباب بالنداء لحاجتهم إلى الزواج والنكاح- من استطاع منكم الباءة -والباءة: المقدرة الذاتية والمالية وما تعلق بها- فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)؛ لأن النفس قد جُبلت على محبة النساء، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:١٤].

هل يوجد خيرٌ من هذا؟ هل يوجد ألذ من هذا؟ هل يوجد أطيب من هذا؟ بلى وربي {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:١٥]، حتى يعلم من اشتهت نفسه أن شهواته منقطعة فانية، وأن وراءه دار الخلود لا تنقطع فيها الشهوات ولا الملذات الشهوة هنا لذةٌ ثم تنقضي، صحةٌ بعدها سقم، نعيمٌ يخلفه كدر، أما اللذة هناك فصحة لا سقم بعدها، وخلود لا موت يكدره، ولذات لا تنقطع.

قال علماء السلف: إن أهل الجنة يأكلون من غير جوع؛ لأن الجوع كدرٌ يكدر اللذات، ويشربون من غير ظمأ؛ لأن الظمأ كدرٌ يكدر اللذات، لكنهم في الجنة يشربون ويأكلون للذات الأكل والشرب، لذاتٍ فوق لذات.

إن النفوس البشرية في هذه الدنيا جبلت وفطرت على حب النساء، ولأجل ذلك كان توظيف هذه المحبة بطريق الزواج: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:٥ - ٦] فما تشبع غريزة الجنس إلا في الزوجات وملك اليمين، ومن أشبعها بغير ذلك {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:٧].