للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث من كانت الآخرة همه]

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واسمعوا قول ربكم عز وجل في محكم كتابه حيث يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:٢٠] واسمعوا قول ربكم عز وجل في محكم كتابه حيث يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦] واسمعوا قول ربكم عز وجل حيث يقول: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:٢٠٠ - ٢٠٢].

معاشر المؤمنين: إن الله جل وعلا خلق هذه الدنيا وأودع فيها من الكنوز والخيرات والثمرات، وحبب إلينا أصنافاً وأنواعاً من نعيمها وطيباتها وملذاتها، فلا يظنن ظان أن الله أباح الطيبات وندب إلى السعي في الدنيا وحبب الناس إلى شيء من لذاتها، ثم بعد ذلك يحرمها عليهم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:٣٢] أوليس جل وعلا هو الذي قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:١٥] أوليس ربنا عز وجل هو الذي قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:١٤] ثم بين ربنا عز وجل أن في الآخرة ما هو خير من الدنيا: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٧] {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:٤].

بين ربنا عز وجل بعد ذكر هذه المحببات المزينات إلى النفوس أن هناك ما هو خير منها: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:١٥] ذلك الخير لمن؟ للذين اتقوا.

معاشر المؤمنين: إن المعاتبة والمحاسبة والملامة والمناقشة هذا اليوم ليست مع أقوام أخذوا من الدنيا نصيبهم وبذلوا هذا النصيب فيما يعين ويحقق الغاية التي من أجلها خلقوا، ألا وهي عبادة الله، وإنما الحساب والعتاب مع أحباب لنا، مع إخوان لنا أشغلتهم دنياهم واستعبدتهم، فخدموها بدلاً من أن تخدمهم، وتبعوها بدلاً من أن تتبعهم، وجعلوها غاية بدلاً من أن يجعلوها وسيلة.

معاشر المؤمنين: اسمعوا هذا الحديث من كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، أخرج هذا الحديث ابن ماجة بسند صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له) هذا حديث عجيب! وهو من جوامع الكلم، ووالله إني لأعرف أناساً كانوا متذبذبين حيرى مترددين في قلق عظيم يريدون أن يشتغلوا بالدنيا، ويريدون أن يعملوا للآخرة ويقولون: لو أشغلنا حظنا من جهدنا وفكرنا للآخرة لفات حظنا ونصيبنا من الدنيا، والناس ذئاب يتقاتلون على الدنيا فلن يبقى لنا منها شيء.

يقول قائلهم: ما زال ذاك الهم يقلقني وفي المنام يؤرقني؛ حتى قرأت هذا الحديث فكان كالماء العذب الزلال على قلب الظامئ الصديان، كان هذا الحديث شفاء من سقم تلك الوسوسة، ودواءً من علة ذلك الشك، ولا عجب أن يصيب المؤمن شيء من ذلك، إذ أن الشيطان لا يدع أحداً إلا وسوس له: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:٥] والله جل وعلا بين أن هذا الشيطان يعدنا الفقر ويأمرنا بالفحشاء {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٦٨].

تعالوا معاشر الشباب! تعالوا معاشر الشيوخ! تعالوا معاشر المسلمين! لنقرأ ولنتدبر هذا الحديث (من كانت الآخرة همه) من هو الذي يهتم للآخرة وبالآخرة وما صفاته؟ أخي الحبيب: إن كانت الآخرة همك فإنك لن يمر بك يوم إلا تذكرت فيه مصيرك ومعادك، إن كانت الآخرة همك فإنك لن ترى شيئاً من الدنيا إلا ربطته لا محالة بالآخرة، إن صعدت جسراً في الطريق تذكرت جسر جهنم، وإن لبست ثوباً تذكرت لباس أهل النار ولباس أهل الجنة، وإن شربت شراباً تذكرت شراب أهل النار وأهل الجنة، وإن أكلت طعاماً تذكرت طعام أهل النار وأهل الجنة، وإن اجتمعت بك حال أو تشتت بك أمر ستتذكر بهذا أحوال أهل النار وأحوال أهل الجنة.

أما الذي ليست الآخرة همه، ولم تشغل باله، وليس لها نصيب من فكره، فسيان إن علا أو هبط، وسيان إن لبس أو نزع، وسيان إن حل وارتحل، وسيان إن جاع أو عطش، وسيان إن نام أو استيقظ، أما من كانت الآخرة همه فإنك تراه يتذكر الآخرة في كل حال وهو يتقلب فيها من الدنيا.

أخي الحبيب: إن كانت الآخرة همك لا شك أنك لن تتحدث بحديث إلا وللآخرة فيه نصيب، فإن كان الكلام في دنيا فإن لآخرتك من دنياك نصيباً، وإن كان الكلام في أمر فإن للآخرة في بدايته أو في وسطه أو ختامه ذكراً، وبالجملة فمن كانت الآخرة همه تجده يرضى لأجل الآخرة، ويحزن لأجل الآخرة، ويغضب لأجل الآخرة، ويفرح لأجل الآخرة، ويسعى لأجل الآخرة، فمن كان كذلك فقد أوتي نعيماً وفضلاً عظيماً، ومن كانت الآخرة همه فبشارته ليست مني ولا من عالم على وجه الدنيا، بل من سيد الأنبياء الذي لا ينطق عن الهوى وحديثه وحي يوحى، من كانت الآخرة همه فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يبشره ويقول له: أبشر أولاً باجتماع شملك.

إن من كانت الآخرة همه يعطى نعمة اجتماع الشمل، فيعطى سكينة وطمأنينة، واجتماع فكر، واجتماع أهل وأحباب وشمل وإخوان، ويجنب الشقاق والقطيعة، وتجتمع دنياه عليه ويكتب له القبول في الأرض، فلا يراه أحد إلا أحبه، وبالجملة يجتمع له وحوله في طاعة الله كلما أراد، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له شمله وآتاه الله غنى في قلبه.